{ 39 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا }
يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده ، أنه قدر بقضائه السابق ، أن يجعل بعضهم يخلف بعضا في الأرض ، ويرسل لكل أمة من الأمم النذر ، فينظر كيف يعملون ، فمن كفر باللّه وبما جاءت به رسله ، فإن كفره عليه ، وعليه إثمه وعقوبته ، ولا يحمل عنه أحد ، ولا يزداد الكافر بكفره إلا مقت ربه له وبغضه إياه ، وأي : عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم ؟ !
{ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا } أي : يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في الجنة ، فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران ، والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان .
( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض . فمن كفر فعليه كفره . ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا . ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً ) .
إن تتابع الأجيال في الأرض ، وذهاب جيل ومجيء جيل ، ووراثة هذا لذاك ، وانتهاء دولة وقيام دولة ، وانطفاء شعلة واتقاد شعلة . وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور . . إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة ، وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين ، يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم ، كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم . وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار ، وتقلب الصولجان ، وتديل الدول ، وتورث الملك ، وتجعل من الجيل خليفة لجيل . وكل شيء يمضي وينتهي ويزول ، والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول .
ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي ، فلا يخلد ولا يبقى . من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ؛ وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل ، وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل . من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل ، ويترك وراءه الذكر الجميل ، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير .
هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر ، حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور ، والطلوع والأفول ، والدول الدائلة ، والحياة الزائلة ، والوراثة الدائبة جيلاً بعد جيل :
( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) . .
وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر ، يذكرهم بفردية التبعة ، فلا يحمل أحد عن أحد شيئاً ، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً ؛ ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال ، وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف :
( فمن كفر فعليه كفره . ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً . ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً ) .
والمقت أشد البغض . ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره ? وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران ? !
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَاراً } .
يقول تعالى ذكره : الله الذي جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض من بعد عاد وثمود ، ومن مضى من قبلكم من الأمم فجعلكم تخلفونهم في ديارهم ومساكنهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الأرْضِ أمة بعد أُمة ، وقرنا بعد قرن .
وقوله : فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ يقول تعالى ذكره : فمن كفر بالله منكم أيها الناس ، فعلى نفسه ضرّ كفره ، لا يضرّ بذلك غير نفسه ، لأنه المعاقب عليه دون غيره . وقوله : وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إلاّ مَقْتا يقول تعالى : ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ بُعدا من رحمة الله وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إلاّ خَسارا يقول : ولا يزيد الكافرين كفرهم بالله إلاّ هلاكا .
{ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها ، وقيل خلفا بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف . { فمن كفر فعليه كفره } جزاء كفره . { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } بيان له ، والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه ، والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة .
و { خلائف } جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن ، وقوله { فعليه كفره } فيه حذف مضاف تقديره «فعليه وبال كفره وضرر كفره » ، و «المقت » احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفاً منك فلا يسمى ذلك مقتاً ، و «الخسار » مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب .
وجملة { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } معترضة بين جملة { إن الله عالم غيب السماوات والأرض } الآية وبين جملة { فمن كفر فعليه كفره } .
والخلائف : جمع خليفة ، وهو الذي يخلف غيره في أمرٍ كانَ لذلك الغير ، كما تقدم عند قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) ، فيجوز أن يكون بعدَ أمم مضت كما في قوله : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } في سورة يونس ( 14 ) فيَكون هذا بياناً لقوله : { إن الله عالم غيب السماوات والأرض } أي هو الذي أوجدكم في الأرض فكيف لا يعلم ما غاب في قلوبكم كما قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] ويكون مَا صْدَف ضمير جماعة المخاطبين شاملاً للمؤمنين وغيرهم من الناس .
ويجوز أن يكون المعنى : هو الذي جعلكم متصرفين في الأرض ، كقوله تعالى : { ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ] ، فيكون الكلام بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله قدّر أن يَكون المسلمون أهل سلطان في الأرض بعد أمم تداولت سيادة العالم ويُظهر بذلك دين الإِسلام على الدين كله .
والجملة الاسمية مفيدة تقوّي الحكم الذي هو جعل الله المخاطبين خلائف في الأرض .
وقد تفرّع على قوله : { عليم بذات الصدور } قولُه : { فمن كفر فعليه كفره } وهو شرط مستعمل كناية عن عدم الاهتمام بأمر دَوامهم على الكفر .
وجملة { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً } بيان لجملة { فمن كفر فعليه كفره } وكان مقتضى ظاهر هذا المعنى أن لا تعطف عليها لأن البيان لا يعطف على المبيَّن ، وإنما خولف ذلك للدلالة على الاهتمام بهذا البيان فجعل مستقلاً بالقصد إلى الإِخبار به فعطفت على الجملة المبيَّنة بمضمونها تنبيهاً على ذلك الاستقلال ، وهذا مقصد يفوت لو ترك العطف ، أما ما تفيده مِن البيان فهو أمر لا يفوت لأنه تقتضيه نسبة معنى الجملة الثانية من معنى الجملة الأولى .
والمقت : البغض مع خزي وصغار ، وتقدم عند قوله تعالى : { إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } في سورة النساء ( 22 ) ، أي يزيدهم مقتَ الله إياهم ، ومقت الله مجاز عن لازمه وهو إمساك لطفه عنهم وجزاؤهم بأشد العقاب .
وتركيب جملة { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً } تركيب عجيب لأن ظاهره يقتضي أن الكافرين كانوا قبل الكفر ممقوتين عند الله فلما كفروا زادهم كفرهم مقتاً عنده ، في حال أن الكفر هو سبب مقت الله إياهم ، ولو لم يكفروا لما مقتهم الله . فتأويل الآية : أنهم لمَّا وصفوا بالكفر ابتداءً ثم أخبر بأن كفرهم يزيدهم مقتاً عُلم أن المراد بكفرهم الثاني الدوام على الكفر يوماً بعد يوم ، وقد كان المشركون يتكبّرون على المسلمين ويُشاقونهم ويؤيسونهم من الطماعية في أن يقبَلوا الإِسلام بأنهم أعظم من أن يتبعوهم وأنهم لا يفارقون دين آبائهم ، ويحسبون ذلك مقتاً منهم للمسلمين فجازاهم الله بزيادة المقت على استمرار الكفر ، قال تعالى : { إن الذين كفروا ينادون لمقت اللَّه أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } [ غافر : 10 ] ، يعني : ينادَون في المحشر ، وكذلك القول في معنى قوله : { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً } .
والخَسار : مصدر خسر مثل الخسارة ، وهو : نقصان التجارة . واستعير لخيبة العمل ؛ شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر والخاسر ، أي الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعاً زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإِفلاس ، وقد تقدم ذلك في آيات كثيرة منها ما في سورة البقرة .