110- ونؤكد لك - أيها النبي - أننا أعطينا موسى التوراة ، فاختلف قومه من بعده في تفسيرها ومعناها ، حسب أهوائهم وشهواتهم ، كل يريد إخضاعها لشهواته ، فتقرقوا شيعا ، وابتعد الكثير منهم عن الحق الذي جاءتهم به ، ولولا وعد من الله سابق بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة ، لحل بهم في دنياهم قضاء اللَّه وحكمه بإهلاك المبطلين ونجاة المحقين ، كما حل بغيرهم من الأمم التي جاءتهم بها ، بعد اختلاف أسلافهم في فهمها وتحريفهم لها ، مما جعل إدراك الحقائق منها أمرا عسيرا . وإن هؤلاء الذين ورثوا التوراة لفي حيرة وبعدٍ عن الحقيقة .
قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب } ، التوراة ، { فاختلف فيه } فمن مصدق به ومكذب ، كما فعل قومك بالقرآن ، يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم { ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عنهم ، " لقضي بينهم " ، أي : لعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم ، { وإنهم لفي شك منه مريب } ، موقع في الريبة والتهمة .
{ 110 - 113 ْ } { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ْ }
يخبر تعالى ، أنه آتى موسى الكتاب ، الذي هو التوراة ، الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه ، والاجتماع ، ولكن ، مع هذا ، فإن المنتسبين إليه ، اختلفوا فيه اختلافا ، أضر بعقائدهم ، وبجامعتهم الدينية .
{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ْ } بتأخيرهم ، وعدم معاجلتهم بالعذاب { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ْ } بإحلال العقوبة بالظالم ، ولكنه تعالى ، اقتضت حكمته ، أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة ، وبقوا في شك منه مريب .
وإذا كانت هذه حالهم ، مع كتابهم ، فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك ، غير مستغرب ، من طائفة اليهود ، أن لا يؤمنوا به ، وأن يكونوا في شك منه مريب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } .
يقول تعالى ، ذكر مسليا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله ، يقول له تعالى ذكره : ولا يحزنك ، يا محمد ، تكذيب هؤلاء المشركين لك ، وامض لما أمرك به ربك من تبليغ رسالته ، فان الذي يفعل بك هؤلاء من رد ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضربائهم من الأمم قبلهم وسنة من سننهم . ثم أخبره ، جلّ ثناؤه ، بما فعل قوم موسى به ، فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الكتابَ } ، يعني : التوراة ، كما آتيناك الفرقان ، فاختلف في ذلك الكتاب قوم موسى ، فكذب به بعضهم ، وصدق به بعضهم ، كما قد فعل قومك بالفرقان ، من تصديق بعض به ، وتكذيب بعض . { وَلَوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ } ، يقول تعالى ذكره : ولولا كلمة سبقت ، يا محمد ، من ربك : بأنه لا يعجل على خلقه بالعذاب ، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ، يقول : لقضي بين المكذب منهم به والمصدّق ، بإهلاك الله المكذّب به منهم ، وإنجائه المصدّق به . { وإنّهُمْ لفي شَكَ مِنْهُ مُرِيبٍ } ، يقول : وإن المكذّبين به منهم لفي شكّ من حقيقته أنه من عند الله مريب ، يقول : يريبهم فلا يدرون أحقّ هو أم باطل ، ولكنهم فيه ممترون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد ءاتينا موسى الكتاب}، يعني: أعطينا موسى التوراة، {فاختلف فيه}، يعني: من بعد موسى، يقول: آمن بالتوراة بعضهم وكفر بها بعضهم، {ولولا كلمة سبقت من ربك} يا محمد في تأخير العذاب عنهم إلى وقت، {لقضي بينهم} في الدنيا بالهلاك حين اختلفوا في الدين، {وإنهم لفي شك منه}، يعني: من الكتاب الذي أوتوه، {مريب}، يعني بالمريب: الذين لا يعرفون شكهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى، ذكر مسليا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله، يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك، يا محمد، تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربك من تبليغ رسالته، فإن الذي يفعل بك هؤلاء من رد ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضربائهم من الأمم قبلهم وسنة من سننهم. ثم أخبره، جلّ ثناؤه، بما فعل قوم موسى به، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الكتابَ}، يعني: التوراة، كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب قوم موسى، فكذب به بعضهم، وصدق به بعضهم، كما قد فعل قومك بالفرقان، من تصديق بعض به، وتكذيب بعض.
{وَلَوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ}، يقول تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت، يا محمد، من ربك: بأنه لا يعجل على خلقه بالعذاب، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، يقول: لقضي بين المكذب منهم به والمصدّق، بإهلاك الله المكذّب به منهم، وإنجائه المصدّق به.
{وإنّهُمْ لفي شَك مِنْهُ مُرِيبٍ}، يقول: وإن المكذّبين به منهم لفي شكّ من حقيقته أنه من عند الله "مريب"، يقول: يريبهم فلا يدرون أحقّ هو أم باطل، ولكنهم فيه ممترون...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولقد آتينا موسى الكتاب...}، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر قصة موسى مثل له، أي لا يعظم عليك أمر من كذبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى، بكتاب فاختلف الناس عليه. وقوله: {ولولا كلمة سبقت من ربك} إلى آخر الآية، يحتمل أن يريد به أمة موسى، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد عليه السلام؛ وأن يعمهم اللفظ أحسن -عندي -ويؤكد ذلك قوله: {وإن كلاً} و «الكلمة» ها هنا عبارة عن الحكم والقضاء والمعنى {لقضي بينهم} أي لفصل بين المؤمن والكافر، بنعيم هذا وعذاب هذا. ووصف «الشك» بالمريب تقوية لمعنى الشك...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد، بين أيضا إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه، وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلا: وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون، وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا...
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} وفيه وجوه:
الأول: أن المراد: ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم.
الثاني: لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة، وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا.
الثالث: {ولولا كلمة سبقت من ربك} وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضي بينهم.
ولما قرر تعالى هذا المعنى قال: {وإنهم لفي شك منه مريب} يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة، أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]؛ فإنه قد قال في الآية الأخرى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر في هذه الآية إعراضهم عن الإتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب، سلاه بأخيه موسى عليهما السلام لأن الحال إذا عم خف، وابتدأ ذكره بحرف التوقع بما دعا إلى توقعه من قرب ذكره مع فرعون مع ذكر كتابه أول السورة فقال تعالى: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي التوراة الجامعة للخير...
ولما كان الضار والمسلي نفس الاختلاف، بني للمفعول قوله: {فاختلف فيه} فآمن به قوم وكفر به آخرون مع أنه إمام ورحمة وكتب سبحانه له فيه من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، وكان معجباً لأهل ذلك الزمان كما اختلف في كتابك مع إعجابه لأهل هذا الزمان وبيانه للهدى أتم بيان، إشارة إلى أن الخلق مهما جاءهم عن الله، وهو لا يكون إلاّ مصحوباً بالأدلة القاطعة نأوا عنه واختلفوا فيه، ومهما تلقفوه عن آبائهم تلقوه بالقبول وناضلوا عنه و سمحوا فيه بالمهج وإن كان منابذاً للعقول، فكان قوم موسى باختلافهم في الكتاب كل قليل يأبى فريق منهم بعض أحكامه ويريدون نقض إبرامه كما سلف بيانه غير مرة عن نص التوراة وسفر يوشع إلى أن آل أمرهم الآن إلى أن صاروا ثلاث فرق: ربانيين، وقرابين، وسامرة؛ يضلل بعضهم بعضاً، ومع ذلك فلم يعاجلهم بالأخذ مع قدرته على ذلك كما فعل بمن قص أمره من الأمم لما سبق من حكمه بتأخيرهم إلى الأجل المعدود، وفصل بين هذا وبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون ليكون مع ما دعا إلى تقديم ما تقدم من الآيات أوقع في التسلية وأبلغ في التعزية والتأسية كما هو شأن كل ما ألقي إلى المحتاج شيئاً فشيئاً {ولولا كلمة} أي عظيمة لا يمكن تغييرها لأنها من كلام الملك الأعظم {سبقت من ربك} أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك رحمة للعالمين {لقُضي} أي لوقع القضاء {بينهم} أي بين من اختلف في كتاب موسى عاجلاً، ولكن سبقت الكلمة أن القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال في سورة يونس {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} -الآية. ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين أنه به، فقال مؤكداً لأن كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك: {وإنهم لفي شك} أي عظيم محيط بهم {منه} أي من القضاء أو الكتاب {مريب} أي موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من الجلال ويتبدى لهم في قبة الزمان من خارق الأحوال...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} أي فاختلَف فيه قومه من بعده بغيا بينهم، وتنازعا على الرياسة، فكانوا شيعا، كل شيعة تنتحل مذهبا وتعادي من يخالفها فيه، وإنما أوتوا الكتاب لجمع الكلمة، وتقدم تفصيل إنزال الله الكتب على الأنبياء للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الآية الجامعة.
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} أي في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم، المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا، والمراد بهذه الكلمة إنظارهم إلى يوم القيامة، وتقدم مثل هذا التعليق بالكلمة في جميع المختلفين في [10: 19]، ثم فسرت في بني إسرائيل بقوله: {إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [يونس: 93]، ومثله في [45: 17]، وسيأتي تحقيق القول في الاختلاف في تفسير الآية 119 هنا. {وإنهم لفي شك منه مريب} الظاهر أن هذا في قوم موسى وكتابهم التوراة، أي إنهم لمرتكسون في شك من أمر كتابهم موقع في الريب والاضطراب. وذهب بعض كبار المفسرين إلى أنه في مشركي مكة وأمثالهم الذين شكوا في القرآن، وهو خطأ ظاهر في اللفظ والمعنى والسياق، وما في معنى الآية من السور الأخرى، ومثلها في سورة حم السجدة [فصلت] بنصها، وفي معناها من سورة الشورى ما يفسر الإجمال في هاتين الآيتين ويفصله، فإنه بعد ذكر بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن واختلاف البشر فيه وحكمه تعالى هو في الاختلاف قال {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} [الشورى: 13، 14] فهذه الآية الأخيرة تفسير لآيتي هود وحم السجدة [فصلت]، فإن الذين أورثوا الكتاب من بعد مَن ذكر في الآيات هم اليهود والنصارى الذين جاءوا بعد أنبيائهم وقبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء قد عَرض لهم من الشك والريب في كتبهم ما لم يكن في عهد سلفهم، فإن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فُقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان كما بيناه مفصلا من قبل. ولذلك قال الله تعالى في عيسى عليه السلام {ويعلمه التوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، فهو لم يأخذ التوراة من أيدي اليهود الذين زعموا أن عزرا كتبها بعد الرجوع من سبي بابل، وإن كان يَحتج عليهم بما كانوا يخالفونه مما حفظوه منها، وقد اختلفوا في كتبهم وفي شرعهم إلى مذاهب، وأما النصارى فكانوا أشد اختلافا في كتبهم ومذاهبهم كما فصلناه من قبل. ومن الغفلة الشنيعة والتكلف البعيد أن يفسروا الكتاب في آية سورة الشورى مع هذا التفصيل فيها بالقرآن الذي وصف بأنه (لا ريب فيه)، ويصفوا الذين أورثوه بأنهم (في شك منه مريب)، ولا يصح أن يقال فيمن لم يؤمنوا به: إنهم أورثوه، وكذلك الذين لم يؤمنوا بموسى وبعيسى لا يقال: إنهم أورثوا التوراة والإنجيل، وإنما يقال: ورث الكتاب من آمن به سواء منهم من أحسن العمل ومن أساء، كما قال تعالى: {أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} [فاطر: 32] ولكن الذين أخطأوا في فهم الآيتين المجملتين في السورتين حملوا عليهما الآية المفصلة وجعلوا تفسيرهن واحد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه).. وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم، ولكن كلمة سبقت من الله أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة: (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم).. ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة، ولم يحل عذاب الاستئصال بهم، لأن لهم كتابا، والذين لهم كتاب من أتباع الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة، لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره كالجيل الذي أنزل فيه. والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل، فإما أن يؤمن بها وإما أن لا يؤمن فيأخذه العذاب.. والتوراة والإنجيل كتابان متكاملان يظلان معروضين للأجيال حتى يجيء الكتاب الأخير، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعا يدعى إليه الناس جميعا، ويحاسب على أساسه الناس جميعا، بما فيهم أهل التوراة وأهل الإنجيل. (وإنهم).. أي قوم موسى.. (لفي شك منه مريب).. من كتب موسى، لأنه لم يكتب إلا بعد أجيال، وتفرقت فيه الروايات واضطربت، فلا يقين فيه لمتبعيه. وإذا كان العذاب قد أجل.. فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها. سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم}، أكد الله نزول الكتاب على موسى ب (اللام) و (قد)، وأضاف سبحانه الإيتاء إليه، وكان فيه آيات بينات، وعظات، وأحكام زاجرة، ولم يترتب على إيتاء موسى عليه السلام الإيمان به، وقد أنقذهم من ظلم فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ورأوا تسع آيات حسية ملزمة، ورأوا آيات الله تعالى فيهم ونعمه ظاهرة وباطنة تفيض عليهم، مع كل هذا لم يذعنوا لما جاء به من شرائع بل اختلفوا فيه، فإذا كانوا قد اختلفوا في شأنه ما بين مذعن ومؤول ومخالف، فكيف تنتظر يا محمد من قوم أميين أن يذعنوا بمجرد النزول...
و (الفاء) في قوله: {فاختلف فيه} للعطف والترتيب من غير تراخ، وكأنه ترتب على إيتاء الله تعالى موسى الكتاب الاختلاف، وهذا يدل على ان الاختلاف ليس ناشئا من ذلك الكتاب، بل هو ناشئ من فساد النفوس وإذا فسدت النفوس لا يقنعها الدليل، ولا يهديها البرهان مهما يكن حاسما...
ولقد قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} ولولا أن الله تعالى يمهل الظالمين إلى يوم يبعثون، ويتركهم يتجادلون، ليزيد ابتلاؤهم لقضي بينهم في هذا الاختلاف وبين الحق الذي لا يحتار فيه أحد، ولكنه تركهم يتعرفونه؛ لأنه خلقهم ذوى مدارك، ومع كل نفس فجورها وتقواها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...ويبقى تاريخ الرسالات خاضعاً للصراع الذي يخوضه الرسل في ساحة الفكر والعمل، ضدّ مَنْ يحاربون الحقيقة، في مجال البحث والممارسة، بل ويريدون للحياة أن تتحرك في الخطوط المنحرفة حيث تكثر المنعطفات، وتختلف الغايات، خلافاً للخط المستقيم الذي تتمثل فيه حقيقة القضايا في ظل وضوح الرؤية؛ ولذلك فهم يختلفون في ما لا يُختلف فيه، ويثيرون النزاع في ما لا يوحي بالنزاع، بهدف استثارة وبث الأوهام في مواجهة الحقيقة، لإسقاط الفكرة. ولم يكن كتاب موسى بدعاً من الكتب التي أنزلها الله على رسله، ولم يكن موسى فريداً في التحديات التي واجهته، {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} الذي أردناه حكماً بين الناس، وفرقاناً بين الحق والباطل، ليحل لهم المشكلة، وليوضح لهم الحقيقة، وليحسم لهم الأمور في ما اختلفوا فيه، لأنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن هؤلاء المعقّدين لم يلتقوا بالوضوح البارز فيه، فحاولوا أن يثيروا الضباب حوله، ليحجبوا الرؤية عنه، {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} من موقع البغي والحسد وما إلى ذلك من عوامل شريرة ذاتية، فانحرفوا عنه، وابتعدوا عن صراطه المستقيم، وكان من الممكن لله القادر على كل شيء أن يعذّبهم في الدنيا، ولكن حكمته اقتضت أن يفسح لهم المجال، وأن يمهلهم ليأخذوا حريتهم في اختيار الطريق الذي يريدونه لأنفسهم، وليملي لهم ما شاء من الإملاء، زيادة في إقامة الحجة عليهم، حتى لا يترك لهم مبرّراً، في أيّ موقع من مواقع الشبهة. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في ما اختلفوا فيه، في عملية حاسمة لا مجال فيها للتردد، لأنها تتمثل في العذاب الذي ينزل على المتمردين، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} لأنهم لا يرتكزون على أساس متين في مصادر هذا الشك وموارده، بل يرجعون فيه إلى ما يطوف في فكرهم من خيالات وأوهام، وما يثور في حياتهم من أهواء وأطماع، مما يوحي بالريب في الدوافع والخيالات، أكثر مما يوحي بالفكر وبالجدّية في مواجهة الأفكار...