قوله تعالى : { أولئك الذين آتيناهم الكتاب } ، أي : الكتب المنزلة عليهم .
قوله تعالى : { والحكم } ، يعني : العلم والفقه .
قوله تعالى : { والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء } ، يعني : أهل مكة .
قوله تعالى : { فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } ، يعني : الأنصار ، وأهل المدينة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال قتادة : فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ، يعني : الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم هاهنا ، وقال أبو رجاء العطاري : معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء ، وهم الملائكة ، قوما ليسوا بها بكافرين .
وقوله { أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة } اسم الإشارة فيه يعود إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشرة والمعطوفين عليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة .
وقصر بعضهم عودته على الأنبياء فحسب وإليه ذهب ابن جرير والرازى أى : أولئك المصطفون الأخيار هم الذين آتيناهم الكتاب أى جنسه المتحقق فى ضمن أى فرد كان من أفراد الكتب السماوية .
والمرد بإيتائه : التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام ، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء ، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين .
والحكم أى : الحكمة وهى علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام . أو الإصابة فى القول والعمل . أو القضاء بين الناس بالحق .
وقوله { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } أى : فإن يكفر بهذه الثلاث التى اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة ، فلن يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين فى وقت من الأوقات وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك وفى ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن دعوته .
والمراد بالقوم الذين وكلوا بالقيام بحق هذه الرسالة ووفقوا للإيمان بها أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار مطلقاً ، لأنهم هم الذين دافعوا عن دعوة الإسلام وبذلوا فى سبيل إعلانها نفوسهم وأموالهم ، ويدخل معهم كل من سار على نهجهم فى كل زمان ومكان .
وقيل : المراد بهم أهل المدينة من الأنصار . وقيل : المراد بهم الأنبياء المذكورون وأتباعهم ، وقيل غير ذلك .
والذى نراه أن الرأى الأول ارجح لأن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم هم المقابلون لكفار قريش الذين كفروا بها .
وفى التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل الذى أصله الحفظ للشىء ومراعاته ، وإيذان بفخامة وعلو قدرها .
قال الإمام الرازى : " دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - سينصر نبيه ، ويقوى دينه ، ويجعله مستعليا على كل من عاداه ، قاهراً لكل من نازعه ، وقد وقع هذا الذى أخبر الله عنه فى هذا الموضع ، فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزاً " .
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب } يريد به الجنس . { والحكم } الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق . { والنبوة } والرسالة . { فإن يكفر بها } أي بهذه الثلاثة . { هؤلاء } يعني قريشا . { فقد وكلنا بها } أي بمراعاتها . { قوم ليسوا بها كافرين } وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم . وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو كل من آمن به أو الفرس . وقيل الملائكة .
و { أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره و { الكتاب } يراد به المصحف والتوراة والإنجيل والزبور ، و { الحكم } يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله ، و { هؤلاء } إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر ، قاله قتادة وابن عباس والسدي وغيرهم ، و { قوماً } يراد به مؤمنوا أهل المدينة ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، فالآية على هذا التأويل وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة ، وقال قتادة أيضاً والحسن بن أبي الحسن المراد ب «القوم » من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين ، وقال أبو رجاء : المراد الملائكة ، والباء في { به } متعلقة بقوله : { بكافرين } والباء في قوله { بكافرين } زائدة للتأكيد .
استئناف ابتدائي للتّنويه بهم ، فهي فذلكة ثانية ، لأنّ الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديّين .
واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان . والمشار إليهم هم المعيَّنون بأسمائهم والمذكورون إجمالاً في قوله : { ومن آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم } [ الأنعام : 87 ] . و { الّذين آتيناهم الكتاب } خبر عن اسم الإشارة .
والمراد بالكتاب الجنس : أي الكتب . وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب ، كما أنزل على الرسل وبعضضِ الأنبياء ، وما أنزل عليهم يعتبر كتاباً ، لأنّ شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب . وقد نصّ القرآن على أنّ إبراهيم كانت له صُحُف بقوله : { صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 19 ] وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل . ولداوود الكلام الصادر منه تبليغاً عن الله تعالى ، وكان نبيئاً ولم يكن رسولاً ، ولسليمان الأمثال ، والجامعة ، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكامٌ أمر الله بها . ويقال : إنّ إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الّذي يُسمّيه الإسرائليون ( أخنوخ ) ويدعوه القبط ( توت ) ويدعوه الحكماء ( هُرْمس ) . ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء الّنبيء فهْم ونبيِينَ الكتب المنزّلة قبله ، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له { يا يحيى خذ الكتاب بقوّة } [ مريم : 12 ] .
والحُكم هو الحكمة ، أي العلم بطرق الخير ودفع الشرّ . قال تعالى في شأن يحيى { وآتيناه الحكم صبياً } [ مريم : 12 ] ، ولم يكن يحيى حاكماً أي قاضياً ، وقد يفسّر الحكم بالقضاء بالحقّ كما في قوله تعالى في شأن داوود وسليمان { وكلاً آتينا حُكماً وعلماً } [ الأنبياء : 79 ] .
وإيتاء هذه الثلاث على التّوزيع ، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الّذين حكموا بين النّاس مثل داوود وسليمان ، ومنهم من أوتي بعضَها وهم الأنبياء غير الرّسل والصّالحون منهم غير الأنبياء ، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم .
والفاء في قوله : { فإن يكفر } عاطفة جملة الشّرط على جملة { أولئك الّذين آتيناهم الكتاب } عقّبت بجملة الشّرط وفرّعت عليها لأنّ الغرض من الجمل السابقة من قوله { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } [ الأنعام : 74 ] هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إيّاه ، فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام .
وضمير { بها } عائد إلى المذكورات : الكتاب والحكم والنّبوءة . والإشارة في قوله : { هؤلاء } إلى المشركين من أهل مكّة ، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السّامعين ، كما ورد في حديث سؤال القبر " فيقال له ما علمك بهذا الرجل " ( يعني النّبيء صلى الله عليه وسلم . وفي « البخاري » قال الأحنف بن قيس : ذهبتُ لأنصر هذا الرجل ( يعني عليّ بن أبي طالب ) .
وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبّر عن مشركي قريش كثيراً بكلمة ( هؤلاء ) ، كقوله : { بل متّعت هؤلاء وآباءهم } [ الزخرف : 29 ] ولم أر من نبّه عليه من قبل .
وكُفر المشركين بنبوءة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعْدُ أنّهم { قالوا ما أنزل الله على بشر مِن شيء } [ الأنعام : 91 ] .
ومعنى : { وكَّلْنا بها } وفّقْنا للإيمان بها ومراعاتها والقياممِ بحقّها . فالتّوكيل هنا استعارة ، لأنّ حقيقة التّوكيل إسناد صاحب الشيء تدبيرَ شيئه إلى من يتولّى تدبيره ويكفيه كلفةَ حفظه ورعاية ما به بقاؤُه وصلاحُه ونماؤُه . يقال : وكَّلته على الشيء ووكَّلته بالشيء فيتعدّى بعلى وبالباء . وقد استعير في هذه الآية للتّوفيق إلى الإيمان بالنّبوءة والكتاب والحكم والنّظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيهاً لتلك الرّعاية برعاية الوكيل ، وتشبيهاً للتّوفيق إليها بإسناد النّظر إلى الوكيل ، لأنّ الوكالة تقتضي وُجود الشيء الموكّل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته ، فكانت استعارةُ { وكَّلنا } لهذا المعنى إيجازاً بديعاً يقابل ما يتضمّنه معنى الكفر بها من إنكارها الّذي فيه إضاعة حدودها .
والقوم هم المؤمنون الّذين آمنوا برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبمَن قبله من الرّسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنّبوءة . والمقصود الأوّل منهم المؤمنون الّذين كانوا بمكّة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السّورة قد نزلت قُبيل الهجرة . وقد فسّر في « الكشاف » القوم بالأنبياء المتقدّم ذكرُهم وادّعى أنّ نظم الآية حمله عليه ، وهو تكلّف لا حامل إليه .
ووصفُ القوم بأنّهم { ليسوا بها بكافرين } للدّلالة على أنّهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرّد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الإسميّة المؤلّفة من اسم ( ليس ) وخبرها لأنّ ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرّف فجملتها تدلّ على دوام نفي الكفر عنهم ، وأدخلت الباء في خبر ( ليس ) لتأكيد ذلك النّفي فصار دوامَ نفي مؤكّداً .
والمعنى إنْ يكفر المشركون بنبوءتك ونبوءةِ مَن قبلك فلا يضرّك كفرهم لأنَّا قد وفّقنا قوماً مؤمنين للإيمان بك وبهم ، فهذا تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته .
وتقديم المجرور على عامله في قوله { ليسوا بها بكافرين } لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير : الكتاب والحكم والنّبوءة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أُولَئِكَ": هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله نوحا وذرّيته الذين هداهم لدين الإسلام واختارهم لرسالته إلى خلقه، هم "الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ "يعني بذلك صحف إبراهيم وموسى وزَبور داود وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين. "والحُكْمَ": الفهم بالكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. عن مجاهد قال: الحكم: هو اللبّ، وعنى بذلك مجاهد إن شاء الله ما قلت لأن اللبّ هو العقل. "فإنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكّلْنا بِهَا قَوْما لَيْسُوا بِهَا بكافِرِينَ": فإن يكفر يا محمد بآيات كتابي الذي أنزلته إليك، فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم، عن ابن عباس: "فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ": إن يكفروا بالقرآن.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى ب"هؤلاء"؛
فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش، وعنى بقوله: "فَقَدْ وَكّلْنَا بها قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرينَ": الأنصار أهل المدينة.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة، فقد وكلنا بها الملائكة. وقال آخرون: عني بقوله: "فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ "يعني قريشا، وبقوله: "فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما" الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبل هذه الآية. وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بقوله: "فإنْ يَكْفُرْ بهَا هَؤلاءِ" كفار قريش، "فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرِينَ": الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أَوْلَى وأحقّ من أن يكون خبرا عن غيرهم.
فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك: فإن يكفر قومك من قريش يا محمد بآياتنا، وكذّبوا وجحدوا حقيقتها، فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذّبون بها، ولكنهم يصدّقون بها ويؤمنون بصحتها. وقد قال بعضم: معنى قوله: فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما: رزقناها قوما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ءاتيناهم الكتاب} يريد الجنس {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} بالكتاب والحكمة والنبوّة. أو بالنبوّة... ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكّل الرجل بالشيء ليقوم به، ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في {بِهَا} صلة كافرين. وفي {بكافرين} تأكيد النفي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالآية تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة.
اعلم أن قوله: {أولئك} إشارة إلى الذين مضى ذكرهم قبل ذلك وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى قبل ذلك، ثم ذكر تعالى أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة.
واعلم أن العطف يوجب المغايرة، فهذه الألفاظ الثلاثة لا بد وأن تدل على أمور ثلاثة متغايرة.
واعلم أن الحكام على الخلق ثلاث طوائف: أحدها: الذين يحكمون على بواطن الناس وعلى أرواحهم، وهم العلماء. وثانيها: الذين يحكمون على ظواهر الخلق، وهم السلاطين يحكمون على الناس بالقهر والسلطنة. وثالثها: الأنبياء، وهم الذين أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لأجله بها يقدرون على التصرف في بواطن الخلق وأرواحهم، وأيضا أعطاهم من القدرة والمكنة ما لأجله يقدرون على التصرف في ظواهر الخلق، ولما استجمعوا هذين الوصفين لا جرم كانوا هم الحكام على الإطلاق.
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله: {آتيناهم الكتاب} إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم العلم الكثير وقوله: {والحكم} إشارة إلى أنه تعالى جعلهم حكاما على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر. وقوله: {والنبوة} إشارة إلى المرتبة الثالثة، وهي الدرجة العالية الرفيعة الشريفة التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين المقدمتين المذكورتين، وللناس في هذه الألفاظ الثلاثة تفسيرات كثيرة، والمختار عندنا ما ذكرناه.
واعلم أن قوله: {آتيناهم الكتاب} يحتمل أن يكون المراد من هذا الإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل عليه كما في صحف إبراهيم وتوراة موسى، وإنجيل عيسى عليه السلام، وقرآن محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون المراد منه أن يؤتيه الله تعالى فهما تاما لما في الكتاب وعلما محيطا بحقائقه وأسراره، وهذا هو الأولى. لأن الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ما أنزل الله تعالى على كل واحد منهم كتابا إلهيا على التعيين والتخصيص...
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه، ويجعله مستعليا على كل من عاداه، قاهرا لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان هذا جاريا مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزا. والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وزاد في الترهيب من التواني في السير والزيغ عن سوء القصد بقوله: {أولئك} أي العالو الرتبة الذين قدمنا ذكرهم وأخبرنا أنهم لو أشركوا سقطت أعمالهم {الذين آتيناهم} أي بعظمتنا {الكتاب} أي الجامع لكل خير، فمن ملك ما فيه من العلوم والمعارف حكم على البواطن، وذلك لأن الناس يحبونه فينقادون له ببواطنهم {والحكم} أي العمل المتقن بالعلم، ومنه نفوذ الكلمة على الظواهر بالسلطنة وإن كرهت البواطن {والنبوة} أي العلم المزين بالحكم وهي وضع كل شيء في أحق مواضعه، فهي جامعة للمرتبتين الماضيتين، فلذلك كان الأنبياء يحكمون على البواطن بما عندهم من العلم، وعلى الظواهر بما يظهر من المعجزات؛ ثم سبب عن تعظيمها بذلك تعظيمَها بأنها لا تبور، فقال تسلية عن المصيبة بطعن الطاعنين فيها وإعراض الجاهلين عنها وترجية عندما يوجب اليأس من نفرة اكثر المدعوين: {فإن يكفر بها} أي هذه الأشياء العظيمة {هؤلاء} أي أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم، وقد حبوناهم بها على أتم وجه وأكمله وأعلاه وأجمله، وأنت تدعوهم إلى أن يكونوا سعداء بما اشتملت عليه من الهدى وهم عنه معرضون، ولعل الإشارة على هذا الوجه لتحقيرهم {فقد وكلنا} أي لما لنا من العظمة في الماضي والحال والاستقبال {بها قوماً} أي ذوي قوة على القيام بالأمور بالإيمان بها والحفظ لحقوقها {ليسوا} وقدم الجار اهتماماً فقال: {بها بكافرين} أي بساترين الشيء مما ظهر من شموس أدلتها، وهم الأنبياء ومن تبعهم، وقد صدق الله -ومن أصدق من الله حديثاً! فقد جاء في هذه الأمة من العلماء الأخيار والراسخين الأحبار من لا يحصيهم إلا الله.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة}...
والحكم يطلق في أصل اللغة على حكم العقل بإثبات شيء لشيء أو نفيه عنه قطعا وهو العلم اليقيني بالمعنى اللغوي الذي بيناه من قبل وهو يستلزم فقه المعلوم وفهم سره وحكمته فهو بمعنى الحكمة والفلسفة، ويطلق على القضاء لخصم على خصم بأن هذا حقه أو ليس بحقه، وقال الراغب: والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه، وقال صاحب اللسان: والحكم العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم بحكم (كنصر ينصر) ثم نقل عن ابن سيده أن الحكم القضاء وجمعه أحكام ولم يقيده بالعدل، وعن الأزهري أنه القضاء بالعدل. وقول ابن سيده هو الظاهر لقوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58] والمعنى الأصلي لهذه المادة المنع.. قال في اللسان: والعرب تقول حكمت وأحكمت وحكمت (بالتشديد) بمعنى منعت ورددت، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم لأنه يمنع الظالم من الظلم. وذكر كغيره من ذلك حكمة اللجام بالتحريك وهي حديدة اللجام التي توضع في حنك الدابة لأنها تردها وتكبحها.
وأقول: إن الحكم بمعنى العلم الحزم وفقه الأمور وهو حكمتها فيه معنى المنع أيضا وهو منع الاحتمالات والظنون فمن ليس له حكم جازم في المسألة لا يكون عالما بها. وما يقال في المسألة الواحدة يقال في كل علم وفن، وكذا منع العلم الحكيم من مخالفة مقتضى العلم، ومن الواضح الجلي أن كل نبي من الأنبياء قد آتاه الله الحكم بهذا المعنى، أي العلم الصحيح والفقه في أمور الدين وشؤون الإصلاح، وفهم الكتاب الذي تعبده به، ساء أنزله عليه أم أنزله على غيره. وإنما اختص بعضهم بإتيانه الحكم صبيا، كيحيى وعيسى ولعل المراد به ملكة الحكم الصحيح في الأمور. وأما الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات فلم يؤته إلا بعض الأنبياء، فإذا كان المشار إليه بقوله {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} من ذكرت أسماؤهم من الأنبياء فيما قبله من الآيات فالأظهر أن المراد بالحكم فيها الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس لأنه أخص ويستلزم العلم والفقه – وكذلك النبوة – وتكون هذه العطايا الثلاثة مرتبة على حسب درجات الخصوصية، فإن الثابت والأمر الواقع أن بعض أولئك النبيين أوتي الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
فإذا جعلنا الحكم بمعنى الفهم والعلم كانت الآية غير مبينة لهذه العطية العظيمة، ومن شواهد القرآن على استعمال الحكم بمعنى القضاء قوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26] وقوله في داود وسليمان معا {وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79] وقوله في يوسف {آتيناه حكما وعلما} [القصص:14] وأما قوله تعالى حكاية عن موسى {فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين} [الشعراء: 21] فهو أظهر في هذا المعنى وإن تأخر القيام به عن القيام بأمر الرسالة التي تأخر القيام بها عن جعله رسولا، فإن كلا منهما وقع في وقته المناسب له. وتفسير بعضهم للحكم هنا بالنبوة ضعيف للاستغناء عنه بذكر الرسالة. ومثله قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {رب هب لي حكما} [الشعراء: 83] فإنه دعا هذا الدعاء وهو رسول عليم بعد محاجة قومه، فلم يبق إلا أنه طلب الحكم بمعنى الحكومة والسلطة.
ومن الشواهد على استعمال الحكم بمعنى العلم وفقه القلب قوله تعالى في يحيى {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12] وقوله في شأن التوراة {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وهذه الثلاث مرتبة على حسب خصوصيتها فكل من أوتي الكتاب أوتي الحكم والنبوة، وكل من أوتي الحكم ممن ذكر كان نبيا، وما كل نبي منهم كان حاكما ولا صاحب كتاب منزل. وهذه مراتب الفصل بينهم، صلوات الله وسلامة عليهم، وإذا استعملنا الحكم بمعنييه على مذهب من يجيز ذلك في المشترك كان على التوزيع فإن كل نبي أوتي الحكم بمعنى العلم والفقه والفهم، وما أوتيه إلا بعضهم بمعنى القضاء بين الناس كما تقرر وتكرر.
وأما إذا جرينا على القول بأن المشار إليهم في الآية هم أولئك النبيون، ومن ذكر من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالحاجة إلى استعمال المشترك في معنييه أقوى، فإن بعضهم كان نبيا غير حاكم، وبعضهم كان عالما حاكما غير نبي، وبعضهم عالما حكيما غير حاكم ولا نبي، ويكون إيتاء الكتاب اعم من إيحائه، فإن أمة الرسول الذي أنزل عليه الكتاب بإيحائه إليه يقال إنها قد أعطيت الكتاب، وآيات القرآن ناطقة بذلك. بل يقال أيضا إن الكتاب أنزل إليهم وعليهم كما نص في سورتي البقرة وآل عمران، فالإنزال على الرسل عبارة عن الوحي إليهم، والإنزال على الأمم عبارة عن مخاطبتهم بما أنزل على رسلهم لهدايتهم. ويؤيد هذا الوجه في تفسير الآية قوله تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة} [الجاثية: 16] الآية.
ثم قال تعالى مبينا وجه العبرة بما ذكر للمخاطبين بالقرآن {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} أي فإن يكفر بهذه الثلاث – الكتاب والحكم والنبوة – هؤلاء المشركون من أهل مكة، وقد خصوا بدعوتهم إلى الإيمان بها قبل غيرهم، إذ أوتيها على الوجه الأكمل رسول منهم، فقد وكلنا بأمر رعايتها، ووفقنا للإيمان بها وتولي نصر الداعي إليها، قوما كراما ليسوا بها بكافرين، بل منهم من آمن ومنهم من سيؤمن عندما يدعى... والمختار عندنا أنهم جميع الصحابة فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها، وصبر على بلائها، وكانوا بعد الهجرة في مقدمة الأنصار، في كل عمل وكل جهاد، ولكن الأنصار مقصودون بالذات لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم، ولذلك قال «ليسوا بها بكافرين» فإن الأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين. – أما تفسير القوم الموكلين بها بمن ذكر من الأنبياء فقد اختاره ابن جرير واحتج بأن الكلام السابق واللاحق فيهم، فالكلام في الأثناء ينبغي أن يكون فيهم كذلك، وتبعه الزمخشري قضية وحجة. ونقله الرازي عن الحسن واختار الزجاج. والمعنى أنه تعالى وكل بها من ذكر في أزمنتهم. ولعل من هؤلاء من يريد بتوكيل أولئك النبيين المرسلين بها ما أخذه الله من العهد عليهم في قوله {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} [آل عمران: 81] الآية ولم يصرحوا بذلك.
وأما تفسير القوم بالملائكة فقد استبعده الرازي معللا ذلك بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم، ونقول إن السياق هنا يدل على قوم كرام من بني آدم بدليل التنكير، وإن أطلق لفظ القوم على الجن في التنزيل، ولا ينافي ذلك وقوعه في سياق الكلام عن الأنبياء فإن قصص الأنبياء لم تذكر إلا لإقامة الحجة بها على الكافرين والهداية والعبرة للمؤمنين. ووصفهم بأنهم ليسوا بها بكافرين، وصف لقوم حاضرين، منهم المؤمن بالقوة والمؤمن بالفعل، ووصف الأنبياء السابقين بذلك لا يظهر له وجه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين)..
وهذا هو التقرير الثاني.. فقرر في الأول مصدر الهدى، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل. وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة -(والحكم) يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك- وكلا المعنيين محتمل في الآية. فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى، والزبور مع داود، والإنجيل مع عيسى. وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان -وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور. فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط، كما جاء في الآيات الأخرى. وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة.. وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه، يحملونه إلى الناس، ويقومون عليه، ويؤمنون به ويحفظونه.. فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب: (هؤلاء) فإن دين الله غني عنهم؛ وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين!.. إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها، وموكب موصول تماسكت حلقاته؛ ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول؛ وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية؛ بما يعلمه من استحقاقه للهداية!.. وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، وفي قلوب العصبة المسلمة- أيا كان عددها -إن هذه العصبة ليست وحدها. ليست مقطوعة من شجرة! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحلقة في موكب جليل موصول، موصولة أسبابه بالله وهداه.. إن المؤمن الفرد، في أي أرض وفي أي جيل، قوي قوي، وكبير كبير، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وان هذا النص فيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بأن عهد الظلم والإيذاء سيأتي بعده عهد النصرة والقوة، وفيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا سينتشر بين الناس، وستخالف فيه الأقوام، ولن يكون مقصورا على العرب، بل يتجاوزهم إلى الفرس والرومان والشام ومصر، وسيعتنقه الأبيض والأسود، وكل من له في الدعوة إليه فضل عظيم.