{ 19 - 24 } { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }
وهؤلاء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزا لهم وتنويها بشأنهم ورفعا لمقدارهم ، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } أي : دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر بالجنات ، وأنواع الكرامات ، ومغفرة الذنوب ، وستر العيوب .
والذي أوصلني إلى هذه الحال ، ما من الله به علي من الإيمان بالبعث والحساب ، والاستعداد له بالممكن من العمل ، ولهذا قال :
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ . . } لتفصيل ما يترتب على العرض والحساب من جزاء .
والمراد بكتابة : ما سجلته الملائكة عليه من أعمال فى الدنيا ، والمراد بيمينه : يده اليمنى ، لأن من يعطى كتابه بيده اليمنى ، يكون هذا الإعطاء دليلا على فوزه ونجاته من العذاب .
والعرب يذكرون التناول باليمين ، على أنه كناية عن الاهتمام بالشئ المأخوذ ، وعن الاعتزاز به ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد . . . تلقاها عرابة باليمين
وجملة { فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } جواب " أما " - ولفظ " هاؤم " هنا :
اسم فعل أمر . بمعنى : خذوا ، والهاء فى قوله " كتابية وحسابيهْ " وما ماثلهما للسكت ، والأصل كتابى وحسابى فأدخلت عليهما هاء السكت لكى تظهر فتحة الياء .
والمعنى فى هذا اليوم يعرض كل إنسان للحساب والجزاء ، ويؤتى كل فرد كتاب أعماله ، فأما من أعطى كتاب أعماله بيمينه ، على سبيل التبشير والتكريم ، { فَيَقُولُ } على سبيل البهجة والسرور لكل من يهمه أن يقول له : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } أى : هذا هو كتابى فخذوه واقرءوه فإنكم ستجدونه مشتملا على الإِكرام لى ، وتبشيرى بالفوز الذى هو نهاية آمالى ، ومحط رجائى .
فأما من أوتي كتابه بيمينه تفصيل للعرض فيقول تبجحا هاؤم اقرءوا كتابيه هاء اسم لخذ وفيه لغات أجودها هاء يا رجل وهاء يا امرأة وهاؤما يا رجلان أو امرأتان وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة ومفعوله محذوف و كتابيه مفعول اقرؤوا لأنه أقرب العاملين ولأنه لو كان مفعول هاؤم لقيل اقرؤوه إذ الأولى اضماره حيث أمكن والهاء فيه وفي حسابيه و ماليه و سلطانيه للسكت تثبت في الوقف وتسقط في الوصل واستحب الوقف لثباتها في الإمام ولذلك قرئ بإثباتها في الوصل .
والذين يعطون كتبهم بأيمانهم هم المخلدون في الجنة أهل الإيمان . واختلف العلماء في الفرقة التي ينفذ فيها الوعيد من أهل المعاصي متى تأخذ كتبها ، فقال بعضهم الأظهر أنها تأخذها مع الناس ، وذلك يؤنسها مدة العذاب ، قال الحسن : فإذا أعطى كتابه بيمينه لم يقرأه حتى يأذن الله تعالى له ، فإذا أذن له قال : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } ، وقال آخرون : الأظهر أنه إذا أخرجوا من النار والإيمان يؤنسهم وقت العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ظاهر هذه الآية ، لأن من يسير إلى النار فكيف يقول { هاؤم اقرؤوا كتابيه } ؟ وأما قوله { هاؤم } ، فقال قوم : أصله هاوموا ، ثم نقله التخفيف والاستعمال ، وقرأ آخرون هذه الميم ضمير الجماعة ، وفي هذا كله نظر . والمعنى على كل تعالوا ، فهو استدعاء إلى الفعل المأمور به ، وقوله تعالى : { اقرؤوا كتابيه } هو استبشار وسرور .
الفاء تفصيل لما يتضمنه { تُعرضون } [ الحاقة : 18 ] إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعمال . و ( أمَّا ) حرف تفصيل وشرطٍ وهو يفيد مفاد ( مَهْمَا يكن من شيء ) ، والمعنى : مهما يكن عَرْض { مَن أوتي كتابه بيمينه . . . فهو في عيشة راضية } ، وشأن الفاء الرَّابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين ( أما ) بجُزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتَم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول ( أما ) كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسيناً لصورة الكلام ، فقوله : { من أوتي كتابه بيمينه } أصله صدر جملة الجواب ، وهو مبتدأ خبره { فيَقول هاؤم اقرأوا كتابيه } كما سيأتي .
ودل قوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } على كلام محذوف للإِيجاز تقديره فيؤتى كلُّ أحد كتابَ أعماله ، فأما من أوتي كتابه إلخ على طريقة قوله تعالى : { أنْ اضربْ بعصاك البحرَ فانفلق } [ الشعراء : 63 ] .
والباء في قوله : { بيمينه } للمصاحبة أو بمعنى ( في ) .
وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير ، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به ، قال الشمَّاخ :
إذا مَا رايةٌ رُفِعَتْ لمجد *** تلقّاها عَرابة باليمين
وقال تعالى : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود } الآية [ الواقعة : 2728 ] ثم قال : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم } الآية [ الواقعة : 4142 ] .
وجملة { فيقول هَاؤُم اقروا كتابِيْه } جواب شرط ( أمَّا ) وهو مغن عن خبر المبتدأ ، وهذا القوْل قول ذي بهجة وحُبور يبعثان على إطْلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار ، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العَرْض .
و { هاؤم } مركب من ( هاء ) ممدوداً ومقصوراً والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجَّه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء . وإذا خوطب به أكثر من واحد التُزم مدُّه ليتأتى إلحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضمُّوا همزته ضمةً كضمةِ ضمير الخطاب إذ لحقتْه علامة التثنية والجمع ، فيقال : هاؤُما ، كما يقال : أنتما ، وهاؤُمُ كما يقال : أنتم ، وهاؤُنَّ كما يقال : أنتن ، ومن أهل اللغة من ادعى أن { هاؤم } أصله : هَا أُمُّوا مركباً من كلمتين ( هَا ) وفعللِ أمر للجماعة من فعل أمَّ ، إذا قصد ، ثم خفف لكثرة الاستعمال ، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء ، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح « الكافية » وابن مكرم في « لسان العرب » .
و { هاؤم } بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى : خذ ، كما في « الكشاف » وبمعنى تعال ، أيضاً كما في « النهاية » .
والخطاب في قوله : { هاؤم اقرأوا } للصالحين من أهل المحشر .
و { كتابيَه } أصله : كتابِيَ بتحريك ياء المتكلم على أحد وجُوه في يَاء المتكلم إذا وقعت مضافاً إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف ، محافظة على حركة الياء المقصودِ اجتلابها .
و { اقرأُوا } بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله { هاؤم .
وقد تنازع كل من { هاؤُم } و{ اقرأوا } قوله : { كتابيه } . والتقدير : هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه . والهاء في كتابيه ونظائرها للسْكتتِ حين الوقف .
وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل . وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف ، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الهاء بالوقف على كلتا الجملتين .
ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل والفواصل مثل الأسجاع تعتبر بحالة الوقف مثل القوافي ، فلو قيل : اقرأوا كتابيَ إني ظننت أني ملاققٍ حسابيَ ، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسّنَيْن .
وقرأها يعقوب إذا وصلها بحذف الهاء والقراء يستحبون أن يقف عليها القارىء ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع .