اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ} (19)

قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، وهذا دليلٌ على النجاة .

قال ابن عباسٍ : أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب ، وله شعاعٌ كشعاع الشمس ، وقيل له : فأين أبو بكر ، فقال : هيهات ، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة{[57789]} .

قال القرطبي{[57790]} : وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه ، ومعناه في كتاب «التذكرة » .

قوله : «هَاؤمَ » ، أي : خذوا { اقرؤا كِتَابيَهْ } يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته ؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح .

قال الشاعر : [ الوافر ]

4848 - إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ***لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ{[57791]}

وقال : [ الطويل ]

4849 - أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي*** فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ{[57792]}

وقال ابن زيدٍ : معنى : «هَاؤمُ » : تعالوا{[57793]} ، فتتعدى ب «إلى » .

وقال مقاتلُ : «هَلُمَّ »{[57794]} .

وقيل : خذوا ، ومنه الحديث في الربا : «إلا هَاء وهَاءَ » ، أي : يقول كل واحد لصاحبه : خُذْ ، وهذا هو المشهورُ .

وقيل : هي كلمةٌ وضعت لإجابة الدَّاعي عند الفرح ، والنَّشاط .

وفي الحديث : «أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ ، فأجَابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم " هَاؤمُ " يطول صوته » .

وقيل : معناها «اقصدوا » .

وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه ، وأموا ، من الأم ، وهو القصدُ ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى «هاؤم » .

وقيل : «الميمُ » ضميرُ جماعةِ الذكور .

وزعم القتيبي : أنَّ «الهمزة » بدلٌ من «الكاف » .

فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح ، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح .

فقوله : «هاؤم » يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى : «خُذْ » أو «اقْصِد إليّ » إن كان بمعنى : «تَعَالَوْا » ، و «اقرأوا » يطلبه أيضاً ، فقد تنازعا في : «كِتَابِيَه » وأعمل الثاني للحذف من الأول .

وقد تقدم تحقيق هذا في سورة «الكهف » .

وفيها لغاتٌ : وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً ، وتكون اسم فعل ، ومعناها في الحالين : «خذ » فإن كانت اسم فعلٍ ، وهي المذكورة في الآية الكريمة ، ففيها لغتان : المدّ والقصر تقول : «هَا درهماً يا زيدُ ، وهاء درهماً » ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، ويتصل بهما كافُ الخطاب ، اتصالها باسم الإشارة ، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره ، نحو : «هَاكَ ، هَاكِ ، هاءَكَ » إلى آخره .

وتخلف كافُ الخطابِ همزة «هاءَ » مصرفة تصرف كاف الخطاب ، فتقول : «هَاءَ يا زيدُ ، هاءِ يا هندُ ، هاؤما ، هاؤم ، هاؤن » وهي لغةُ القرآن .

وإذا كانت فعلاً صريحاً ؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ :

إحداها : أن يكون مثل «عَاطَى يُعَاطِي » ، فيقال : «هاء يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ ، هاءوا يا زيدون ، هائين يا هنداتُ » .

الثانية : أن تكون مثل : «هَبْ » فيقال : «هَأ ، هِىء ، هَاءَا ، هِئُوا ، هِئْنَ » ، مثل : «هَبْ ، هِبِي ، هِبَا ، هِبُوا ، هِبْنَ » .

الثالثة : أن تكون مثل : «خَفْ » أمراً من الخوف ، فيقال : «هَأْ ، هَائِي ، هَاءَا ، هَاءُوا ، هَأنَ » ، مثل : «خَفْ ، خَافِي ، خَافَا ، خَافُوا ، خفْنَ » .

قوله : «كتابيه » . منصوب ب «هاؤم » عند الكوفيين ، وعند البصريين ب «اقرأوا » ؛ لأنه أقربُ العاملين ، والأصل «كتابي » فأدخل «الهاء » لتبين فتحة «الياءِ » و «الهاء » في «كتابيه » و «حسابيه » و «سلطانيه » و «ماليه » للسكتِ ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف ، أو وصل بنية الوقف في «كتابيه » و «حسابيه » اتفاقاً ، فأثبت «الهاء » .

وكذلك في «مَاليَه » و «سلطانيه » و { مَا هِيَهْ }[ القارعة : 10 ] في القارعة ، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة ، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً ، وأثبتها وقفاً ؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها ؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصل يستغنى عنها .

فإن قيل : فَلِمَ لم يفعل ذلك في «كتابيه » و «حسابيه » ؟ .

فالجواب : أنه جمع بين اللغتين ، هذا في القراءات السبعِ{[57795]} .

وقرأ ابن محيصن{[57796]} : بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في «القارعة » ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل .

وقرأ الأعمشُ ، وابن أبي إسحاق{[57797]} : بحذفها فيهن وصلاً ، وإثباتها وقفاً .

وابن محيصن : يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها .

والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً ؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم ، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه . وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام .


[57789]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/174) عن ابن عباس موقوفا وقد ورد هذا مرفوعا من حديث زيد ابن ثابت أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/202) من طريق عمر بن إبراهيم ثنا مرحوم بن أرطبان ثنا عاصم الأحول عن زيد بن ثابت به. وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/320) وتبعه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (1/156) وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/346). وقال ابن عراق: وفيه عمر بن إبراهيم بن خالد الكردي وهو المتهم به.
[57790]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/174.
[57791]:ينظر: القرطبي 18/178.
[57792]:ينظر القرطبي 18/174.
[57793]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/127) وذكره القرطبي (18/175).
[57794]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/175).
[57795]:ينظر: الدر المصون 6/366.
[57796]:ينظر: الكشاف 4/603، والمحرر الوجيز 5/360، والبحر المحيط 8/319.
[57797]:ينظر: المحرر الوجيز 5/360، والبحر المحيط 8/319، والدر المصون 6/366.