الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ} (19)

قوله : { هَآؤُمُ } : أي : خُذُوا . وفيها لغاتٌ ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً ، وتكونُ اسمَ فعلٍ ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ . فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان : المدُّ والقَصْرُ تقول : ها درهماً يا زيدُ ، وهاءَ درهماً . ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها باسمِ الإِشارةِ ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع ، مطابَقَتَها وهي ضميرُهُ ، نحو : هاكَ هاءكَ ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه ، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ " هاء " مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ ، فتقول : هاءَ يا زيدُ ، وهاءِ يا هندُ ، هاؤُما ، هاؤُم ، هاؤُنَّ ، وهي لغةُ القرآن .

وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ ، إحداها : أَنْ تكونَ مثلَ : عاطى يُعاطي . فيُقال : هاءِ يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائِيا يا زيدان ، أو يا هندان ، هاؤُوا يا زيدون ، هائِيْنَ يا هنداتُ . الثانية : أَنْ تكونَ مثلَ " هَبْ " فتقول : هَأْ ، هَئِي ، هَآ ، هَؤُوا ، هَأْنَ . مثلَ : هَبْ ، هَبِي ، هَبا ، هَبُوا ، هَبْنَ .

الثالثة : أَنْ يكونَ مثلَ : خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال : هَأْ ، هائي ، هاءا ، هاؤوا ، هَأْنَ ، مثلَ : خَفْ ، خافِي ، خافا ، خافُوا ، خَفْنَ .

واختُلِفَ في مَدْلولِها : فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا . وقيل : معناها تعالوا ، فيتعدَّى ب " إلى " . وقيل : هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ . وفي الحديث : " أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه " ومِنْ كوْنِها بمعنى " خُذْ " الحديث في الرِّبا : " إلاَّ هاءَ وهاء " أي : يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن . خذ . وقيل معناها اقصِدوا . وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم . وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ . وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ . وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح .

وقوله : { هَآؤُمُ } يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه ، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ ، وب " إلى " إنْ كان بمعنى تعالَوا . و " اقْرؤُوا " يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في " كتابِيَهْ " وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الأولِ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها . والهاءُ في " كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ " للسَّكْت ، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً ، وتَثْبُتَ وَقْفاً ، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في " كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ " اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء ، وكذلك في " مالِيه وسُلْطانِيَهْ " ، و " ما هِيَهْ " في { الْقَارِعَةُ } [ القارعة : 10 ] عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً ؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها .

فإنْ قيل : فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في " كِتَابِيَهْ/ وحسابِيَهْ " فالجوابُ : أنه جَمْعٌ بني اللغتين ، هذا في القراءاتِ السبعِ . وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً ، إلاَّ في " القارعة " ، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ . وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً ، وإثباتِها وَقْفاً . وابن محيصن يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً . والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً ، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي : " إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه " . وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة . والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه .