تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ} (19)

الآية 19 وقوله تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } ظاهر ما جرى به الخطاب في القرآن يوجب أن يرحم المؤمنون جميعا ، فلا يعذبوا {[21925]} في الآخرة ويعذب الكافرون ، ولا يرحموا {[21926]} لأنه قسم الخلق يوم القيامة صنفين : فجعل صنفا منهم أهل اليمين ، وصنفا أهل الشمال ، ثم وصف كل واحد من الصنفين بأعلام ثلاثة :

فذكر مرة أنه يخف ميزانهم بقوله : { ومن خفت موازينه } [ الأعراف : 9 و . . ] وذكر مرة أن وجوههم تسود ، وذكر مرة أنهم يعطون كتابهم بشمالهم . فهذه الأعلام ذكرها في أحد الصنفين .

وذكر {[21927]} الصنف الثاني ، ووصفهم بأعلام ثلاثة : ببياض الوجوه وبثقل الميزان وبإعطاء الكتاب بأيمانهم .

ثم في ما فيه سواد الوجوه ذكر فيه : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .

[ آل عمران : 106 ] وكذلك حين ذكر خفة الميزان ذكر في آخره ما يبين أن الذين خفت موازينهم هم الكفرة لأنه قال : { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } [ المؤمنون : 105 ] .

وذكر في إعطاء الكتاب بشماله{[21928]} ما يبين أنه من أهل الكفر لأنه قال : { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم } { ولا يحض على طعام المسكين } [ الحاقة 33و 34 ] .

فثبت أن الوعيد المطلق ذكر في أهل الكفر ، وكذلك قال : { واتقوا النار 592- ب/ التي أعدت للكافرين } [ آل عمران 131 ] ولم يقل أعدت للخلق ، وقال : { وجنات عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] فثبت أن أهل النار هم الكفار .

ثم المؤمنون قد يعترض منهم زلات ومآثم في هذه الدنيا ، والكفار تؤخذ منهم المحاسن فيها ، ولكن أهل الكفر يجزون جزاء حسناتهم لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . وإذا لم يؤمنوا بها لم يقع سعيهم لها ، وأمكن أن يكون المؤمن يجعل له العقاب بسيئاته في الدنيا ، فتخلص له الحسنات في الآخرة فيجزى بها ، وجائز أن تكفر سيئاته بالحسنات التي تؤخذ منه لأن المحاسن جعلت سببا لتكفير المساوئ ؛ قال تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] وإذا كفرت سيئاته في الدنيا لم يعذب بها في الآخرة .

وجائز أن يكون الله تعالى يعذبهم بقدر ذنوبهم ، ثم يعفو عنهم بحسناتهم التي سبقت منهم من الإيمان وغير ذلك .

فكل مؤمن في الحقيقة آخره الجنة ، ويثقل ميزانه ، ويبيض وجهه ، ويعطى كتابه بيمينه [ ثم ] {[21929]}يجوز أن يكون الذي يعاقب بذنوبه من أهل الإيمان ، يعاقب بها {[21930]} قبل أن يعطي كتابه بيمينه ، ويثقل ميزانه ، وقبل أن يبيض وجهه لم يكن مسود الوجه {[21931]} ، ولكن على ما عليه في الدنيا .

ثم متى عفي عنه في الخبر " أن الناس يعرضون يوم القيامة على ثلاث عرضات فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير ، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي [ الترمذي : 2425 ] .

فيجوز أن يكون تعذيبه قبل العرضة الثالثة ، ثم يعطي كتابه في العرضة الثالثة بيمينه ، فتظهر له أعلام السعادة إذ ذاك .

فإذا ثبت أن الوعيد المطلق إنما جاء في أهل الكفر لم يلحق أهل الكبائر من أهل الإيمان بهم في الحكم ، بل وجب الوقف في حالهم كما قال أصحابنا ، والله الموفق .

وقوله تعالى : { فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه } قال بعضهم : { هاؤم } تعالوا ، وقال بعضهم : هو بمعنى هاكم ، أي خذوا ، فأبدلت الهمزة مكان الكاف .

فظاهر الآية أن المعطي له الكتاب بقول : هذا ، يدعو الخلق ، ويناولهم الكتاب استبشارا وحبورا ، فبشرهم بعفو الله تعالى عنه ورحمته عليه .

ولكن أهل التأويل صرفوا التأويل إلى المعطي ، فقالوا : هو الذي يقول هذا ، فكان الذي يقول : كتب الكتاب في الدنيا ، من الملك ، وهو الذي يعطي الكتاب إلى المكتوب إليه ، ويقول : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } أي خذوا واقرؤوا ما كتبت لكم وعليكم ، والله اعلم .


[21925]:في الأصل وم: يعذبون.
[21926]:في الأصل وم: يرحمون.
[21927]:أدرج قبلها في الأصل وم: في.
[21928]:أدرج بعدها في الأصل وم: وذكر فيه
[21929]:من م ساقطة من الأصل.
[21930]:في الأصل وم: وبه.
[21931]:في الأصل وم: الوجوه.