{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ ْ } التي مثلتموها ، ونحتموها بأيديكم ، على صور بعض المخلوقات { الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ْ } مقيمون على عبادتها ، ملازمون لذلك ، فما هي ؟ وأي فضيلة ثبتت لها ؟ وأين عقولكم ، التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها ؟ والحال أنكم مثلتموها ، ونحتموها بأيديكم ، فهذا من أكبر العجائب ، تعبدون ما تنحتون .
وقوله : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } بيان لما جابَهَ بِه إبراهيم أباه وقومه من قول سديد يدل على شجاعته ورشده .
أى : وكنا به عالمين . وقت أن قال لأبيه وقومه على سبيل الإرشاد والتنبيه : ما هذه التماثيل الباطلة التى أقبلتم عليها ، وصرتم ملازمين لعبادتها بدون انقطاع .
وسؤاله - عليه السلام - لهم بما التى هى لبيان الحقيقة ، من باب تجاهل العارف ، لأنه يعلم أن هذه الأصنام مصنوعة من الأحجار أو ما يشبهها ، وإنما أراد بسؤاله تنبيههم إلى فساد فعلهم . حيث عبدوا ما يصنعونه بأيديهم .
وعبر عن الأصنام بالتماثيل ، زيادة فى التحقير من أمرها ، والتوهين من شأنها ، فإن التماثيل هو الشىء المصنوع من الاحجار أو الحديد أو نحو ذلك ، على هيئة مخلوق من مخلوقات الله - تعالى - كالإنسان والحيوان ، يقال : مثلت الشىء بالشىء إذا شبهته به .
فهو - عليه السلام - سماها باسمها الحقيقى الذى تستحقه ، دون أن يجاريهم فى تسميتها آلهة .
وقوله : { عَاكِفُونَ } من العكوف بمعنى المداومة والملازمة . يقال : عكف فلان على الشىء إذا لازمه وواظب عليه ، ومنه الاعتكاف لأنه حبس النفس عن التصرفات العادية .
وفى التعبير عن عبادتهم لها بالعكوف عليها ، تفظيع لفعلهم وتنفير لهم منه ، حيث انكبوا على تعظيم من لا يستحق التعظيم ، وتعلقوا بعبادة تماثيل هم صنعوها بأيديهم .
ثم قال : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره ، الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله ، عز وجل ، فقال : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } أي : معتكفون على عبادتها .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباته ، قال : مر عليّ ، على قوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها .
{ إذ قال } ظرف لفِعل { آتينَا } أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه : { ما هذه التماثيل } الخ ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه ، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى ، فذلك أول ما بُدىء به من الوحي .
وقوم إبراهيم كانوا من ( الكَلدان ) وكان يسكن بلداً يقال له ( كوثى ) بمثلثة في آخره بعدها ألف . وهي المسماة في التوراة ( أور الكلدان ) ، ويقال : أيضاً إنها ( أورفة ) في ( الرها ) ، ثم سكن هو وأبوه وأهله ( حاران ) وحاران هي ( حرّان ) ، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه : « اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك » . ومات أبوه في ( حاران ) كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من ( حاران ) لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان . وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة ، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صوراً مجسمة .
والاستفهام في قوله تعالى : { ما هذه التماثيل } يتسلط على الوصف في قوله تعالى : { التي أنتم لها عاكفون } فكأنه قال : ما عبادتكم هذه التماثيل ؟ . ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادىء الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها . وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلاً مستعلماً ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم { وجدنا آباءنا لها عابدين } ؛ فإن شأن السؤال بكلمة ( مَا ) أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه .
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية . والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي .
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي ( بَعْل ) وهو أعظمها ، وكان مصوغاً من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس ، وعبدوا رموزاً للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح : ودّاً ، وسُواعاً ، ويغوثَ ، ويعوقَ ، ونسْراً ، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى . وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور ( إخوان الكلدان ) صنماً اسمه ( نَسْروخ ) وهو نَسْر لا محالة .
وجعْل العكوففِ مسنداً إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركاً لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم ، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى : { أنتم لها عاكفون } فيه معنى دوامهم على ذلك .
وضمن { عاكفون } معنى العبادة ، فلذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إذْ قَالَ لأَبِيِهِ وَقْومِهِ" يعني في وقت قيله وحين قيله لهم: "ما هذهِ التماثِيلُ الّتِي أنتمْ لَهَا عَاكِفُونَ" يقول: قال لهم: أيّ شيء هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون؟ وكانت تلك التماثيل أصنامهم التي كانوا يعبدونها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي} اتخذتموها {أنتم لها عاكفون} كأنه قال: {ما هذه التماثيل التي} اتخذتموها {أنتم لها عاكفون} أي إنما يعبد من يعبد لفعل يكون من المعبود إلى من يعبده، فأما من يعبد بما يفعل بالمعبود فلا يُحتمل. وهو ما قال إبراهيم: {أتعبدون ما تنحتون} {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95 و96] يسفههم، ويعيب عليهم عبادتهم 7 ما ينحتون بأيديهم، ويتركون عبادة من خلقهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والعكوف: اللزوم لأمر من الأمور...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
خاطبَ قومه وأباه ببيان التنبيه طمعاً في استفاقتهم من سَكْرَةِ الغفلة، ورجوعهم من ظلمة الغلظة، وخروجهم من ضيقِ الشُّبْهَة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِذْ} إما أن يتعلق بآتينا، أو برشده، أو بمحذوف، أي: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت.
قوله: {مَا هذه التماثيل} تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى، وأصله من مثلت الشيء بالشيء: إذا شبهته به.
المسألة الثانية: أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره، فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وبدأ أولاً بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال، ثم عطف عليه {قومه} كقوله {وأنذر عشيرتك الأقربين}... وفي خطابه لهم بقوله {أنتم} استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم، وعكف يتعدى بعلى كقوله {يعكفون على أصنام لهم} فقيل {لها} هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله {وإن أسأتم فلها} والظاهر أن اللام في {لها} لام التعليل أي لتعظيمها،
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره، الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وتعليقُ {إذ قال} أي إبراهيم {لأبيه وقومه} ب {عالمين} إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضى لنا نصرناه -وهو وحده- على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، فهو مثل ما مضى في قوله {قل ربي يعلم القول في السماء والأرض} ومفهوم هذا القيد لا يضر لأنه لا يحصي ما ينفيه من المنطوقات، وإن شئت فعلقه ب {آياتنا}؛ ثم ذكر مقول القول في قوله منكراً عليهم محقراً لأصنامهم في أسلوب التجاهل لإثبات دعوى جهلهم بدليل: {ما هذه التماثيل} أي الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح، جاعلين بها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له، وهي الأصنام {التي أنتم لها} أي لأجلها وحدها، مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها {عاكفون} أي موقعون الإقبال عليها مواظبون على ذلك، فبأي معنى استحقت منكم هذا الاختصاص، وإنما هي مثال للحي في الصورة وهو أعلى منها بالحياة التي أفاضها الله عليه.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وهذا تجاهلٌ منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بغير التي يُطلب بها بيانُ الحقيقة أو شرحُ الاسم، كأنه لا يعرف أنها ماذا، مع إحاطته بأن حقيقتها حجرٌ أو شجرٌ اتخذوها معبوداً.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفي الإشارة إليها بما يشار به القريب إشارة إلى التحقير أيضاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟)..
فكانت قولته هذه دليل رشده.. سمى تلك الأحجار والخشب باسمها: (هذه التماثيل) ولم يقل إنها آلهة، واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة. و كلمة (عاكفون) تفيد الانكباب الدائم المستمر. و هم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها. ولكنهم يتعلقون بها. فهو عكوف معنوي لا زمني. وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام في قوله تعالى: {ما هذه التماثيل} يتسلط على الوصف في قوله تعالى: {التي أنتم لها عاكفون} فكأنه قال: ما عبادتكم هذه التماثيل؟. ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل، وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها. وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم، فهم يظنونه سائلاً مستعلماً؛ ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم {وجدنا آباءنا لها عابدين}؛ فإن شأن السؤال بكلمة (مَا) أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه. والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية. والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي...
وجعْل العكوفِ مسنداً إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركاً لهم في ذلك، فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {أنتم لها عاكفون} فيه معنى دوامهم على ذلك.
الاستفهام هنا على غير حقيقته، بل هو استفهام إنكاري يحمل لهجة الاستهزاء والسخرية والتقريع، ولا بد أنه ألقى عليهم هذا السؤال بشكل أدائي يوحي بالتقريع.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} قالها لأبيه، في موقف يوحي بأن الأبوّة، مهما كانت تختزن في داخلها من الاحترام والهيبة، لا تمنع الولد من مواجهتها بالأسئلة الحاسمة في القضايا المتصلة بالعقيدة، لأنها تتجاوز كل الانفعالات الشعورية في العلاقات الإنسانية، لتتركز في دائرة المواقف المصيرية، ما يعني بأن الحواجز النفسية لا تمثل حائلاً بين الإنسان وبين الآخرين في شكليات التقاليد والعادات، بما يريد أن يؤكده من قضايا الفكر والحياة. وقالها لقومه الذين يملكون في المجتمع القديم السلطة الضاغطة على كل فرد من أفراد العائلة، لا سيما كبار السن مثلهم، وذلك بشجاعة الروح الرسالية التي تملك أن تطلق التحدّي وأن ترده، في عملية الدعوة والهداية والدفاع عن الحق. {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الحجرية التي تتعبدون لها في خشوع وابتهال؟ ما دورها في حياتكم وحياة الناس؟ وما الأسرار الكامنة في داخلها التي تميزها عن الأحجار الأخرى؟ هل هو الشكل والصورة أو ماذا؟.. إنكم أنتم من صنعها، فلم تكن منزلة عليكم من الغيب، ولولاكم لم يكن لها أية ميزة نوعية، فهل فكرتم في ذلك كله؟