ولكنه تعالى حليم ، يمهل العباد ويستأني بهم ، لعلهم يتوبون ويرجعون ، ولهذا قال : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ } أي : اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية ، واعف عنهم ، ولا يبدر منك لهم إلا السلام الذي يقابل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين ، كما قال تعالى عن عباده الصالحين : { وإذا خاطبهم الجاهلون } أي : خطابا بمقتضى جهلهم { قالوا سلاما } فامتثل صلى اللّه عليه وسلم ، لأمر ربه ، وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الأذى ، بالعفو والصفح ، ولم يقابلهم عليه إلا بالإحسان إليهم والخطاب الجميل .
فصلوات اللّه وسلامه على من خصه اللّه بالخلق العظيم ، الذي فضل به أهل الأرض والسماء ، وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء .
وقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : غِبَّ ذنوبهم ، وعاقبة جرمهم .
وقوله - تعالى - : { فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } إرشاد وتسلية من الله - تعالى - لنبيه . أى : فأعرض عنهم ، ولا تطمع فى إيمانهم لشدة كفرهم ، { وَقُلْ سَلاَمٌ } أى : وقل لهم : أمرى وشأنى الآن مسالمتكم ومتاركتكم . . { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء عاقبة كفرهم وإصرارهم على باطلهم .
وبعد : فهذا تفسير لسورة " الزخرف " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
وقوله : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } أي : المشركين ، { وَقُلْ سَلامٌ } أي : لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ{[26157]} } ، هذا تهديد منه تعالى لهم ، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد ، وأعلى دينه وكلمته ، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب .
وقوله : { فاصفح عنهم } موادعة منسوخة بآيات السيف .
وقوله : { سلام } تقديره : وقل أمري سلام ، أي مسالمة . ( وقالت فرقة ) المعنى : وقل سلام عليكم على جهة الموادعة والملاينة ، والنسخ قد أتى على هذا السلام ، فسواء كان تحية أو عبارة عن الموادعة .
وقرأ جمهور القراء : «يعلمون » بالياء . وقرأ نافع وابن عامر في رواية هشام عنه والحسن والأعرج وأبو جعفر : «تعلمون » بالتاء من فوق .
الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن مقدر ، أي إذْ قلتَ ذلك القيل وفوضتَ الأمر إلينا فسأتَولى الانتصاف منهم فاصفح عنهم ، أي أعرض عنهم ولا تحزن لهم وقل لهم إن جادلوك : { سلامٌ } ، أي سلمنا في المجادلة وتركناها . t وأصل { سلام } مصدر جاء بدلاً من فعله . فأصله النصب ، وعدل إلى رفعه لقصد الدلالة على الثبات كما تقدم في قوله : { الحمد لله ربّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] .
يقال : صَفح يصفح من باب منع بمعنى : أعرضَ وترك ، وتقدم في أول السورة { أفنضربُ عنكم الذكر صفحاً } [ الزخرف : 5 ] ولكن الصفح المأمور به هنا غير الصفح المُنكَر وقوعُه في قوله : { أفنضرب عنكم الذكر صَفحاً . وفرع عليه فسوف تعلمون } تهديداً لهم ووعيداً . وحذف مفعول { تعلمون } للتهويل لتذهب نفوسهم كل مذهب ممكن . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب { تعلمون } بالمثناة الفوقية على أن { فسوف تعلمون } مما أمر الرسول بأن يقوله لهم ، أي وقل سوف تعلمون . وقرأه الجمهور بياء تحتية على أنه وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه منتقم من المكذبين .
وما في هذه الآية من الأمر بالإعراض والتسليم في الجدال والوعيد ما يؤذن بانتهاء الكلام في هذه السورة وهو من براعة المقطع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاصفح عنهم} يعني فأعرض عنهم.
{فسوف يعلمون} هذا وعيد حين ينزل بهم العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، جوابا له عن دعائه إياه إذ قال:"يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون"، "فاصْفَحْ عَنْهُمْ "يا محمد، وأعرض عن أذاهم "وَقُلْ "لهم "سَلامٌ" عليكم ورفع سلام بضمير عليكم أو لكم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"؛ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة «فَسَوْفَ تَعْلَمونَ» بالتاء على وجه الخطاب، بمعنى: أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للمشركين، مع قوله: سَلامٌ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض قرّاء مكة "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" بالياء على وجه الخبر، وأنه وعيد من الله للمشركين، فتأويله على هذه القراءة: "فاصْفَحْ عَنْهُمْ" يا محمد "وقُلْ سَلامٌ". ثم ابتدأ تعالى ذكره الوعيدَ لهم، فقال "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" ما يلقون من البلاء والنكال والعذاب على كفرهم...
عن قتادة، قال الله تبارك وتعالى يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم: "فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقل سلام} أي قل الصواب والحق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أي أَمْهِلْهُم، وقل لكم مني سلامٌ.. ولكن سوف تعلمون عقوبة ما تستوجبون...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فاصفح عَنْهُمْ} فأعرض عن دعوتهم يائساً عن إيمانهم، وودعهم وتاركهم.
{وَقُلْ} لهم {سلام} أي تسلم منكم ومتاركة.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم...
{فاصفح عنهم} فأمره بأن يصفح عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة، وذلك كله ببركته صلى الله عليه وسلم في سياق ظاهره التهديد وباطنه -بالنسبة إلى علمه- البشارة بالتشديد فقال: {فاصفح عنهم} أي اعف عمن أعرض منهم فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ {وقل} أي لهم: {سلام} أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم.
{فسوف يعلمون} بوعد لا خلف فيه، فهذا ظاهره تهديد كبير... وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة بأنهم يصيرون علماء، فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل -بما أفهمه أول السورة- فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل، فللّه دره من آخر عانق الأول، ومقطع رد إلى المطلع تنزل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن مقدر، أي إذْ قلتَ ذلك القيل وفوضتَ الأمر إلينا فسأتَولى الانتصاف منهم فاصفح عنهم، أي أعرض عنهم ولا تحزن لهم وقل لهم إن جادلوك: {سلامٌ}، أي سلمنا في المجادلة وتركناها، وأصل {سلام} مصدر جاء بدلاً من فعله. فأصله النصب، وعدل إلى رفعه لقصد الدلالة على الثبات كما تقدم في قوله: {الحمد لله ربّ العالمين} [الفاتحة: 2].
يقال: صَفح يصفح من باب منع بمعنى: أعرضَ وترك، وتقدم في أول السورة {أفنضربُ عنكم الذكر صفحاً} [الزخرف: 5] ولكن الصفح المأمور به هنا غير الصفح المُنكَر وقوعُه في قوله: {أفنضرب عنكم الذكر صَفحاً. وفرع عليه فسوف تعلمون} تهديداً لهم ووعيداً. وحذف مفعول {تعلمون} للتهويل لتذهب نفوسهم كل مذهب ممكن. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب {تعلمون} بالمثناة الفوقية على أن {فسوف تعلمون} مما أمر الرسول بأن يقوله لهم، أي وقل سوف تعلمون. وقرأه الجمهور بياء تحتية على أنه وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه منتقم من المكذبين.
وما في هذه الآية من الأمر بالإعراض والتسليم في الجدال والوعيد ما يؤذن بانتهاء الكلام في هذه السورة وهو من براعة المقطع.
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} لأن الصفح عنهم سيجذبهم إلى ساحة الإيمان بك، وسوف يكون من هؤلاء جند من جنود الإسلام، وبالفعل رأينا خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص وغيرهم من صناديد الكفر يصيرون قادةً في صفوف المسلمين...
وقوله: {وَقُلْ سَلاَمٌ} والتقدير: قُلْ لهم سلام عليكم. ونفهم من هذا أن كلمة (سلام) هكذا بدون (عليك) وحدها تُقال لمَنْ كان بينك وبينه خصومة وتريد أنْ تفارقه، ونجن نقولها في واقع حياتنا حينما تختلف مع شخص آخر ولا تصل معه إلى حَلٍّ تقول له سلام، لذلك سيدنا إبراهيم في جداله مع أبيه قال له: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ} [مريم: 47] أي: سلام وَدَاع ومفارقة لا سلامَ تحية.
وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يعني: لما تفعل هذا سوف يعلمون عاقبةَ ما قُلته، وسوف يعلمون كيف أُعاقبهم على تكذيبهم لك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية أن (فاصفح عنهم) ولا يكن إعراضك عنهم إعراض افتراق وغضب وأذى وجرح للمشاعر، بل أعرض عنهم (وقل سلام) لا سلام تحية ومحبّة، بل سلام وداع وافتراق...
ومع ذلك فإنّه تعالى يهددهم ويحذرهم بجملة عميقة المعنى، لئلا يتصوروا أن الله تاركهم بعد هذا الفراق والوداع، فيقول:
(فسوف يعلمون). نعم، سوف يعلمون أي نار محرقة قد أوقدوها لأنفسهم بعنادهم، وأي عذاب أليم قد هيأوا أسبابه ليطالهم فيما بعد؟...