{ فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون( 89 ) } .
أمر الله تعالى نبيه أن يعرض عنهم ولا يحزن لتماديهم في ضلالهم ، فليعرض عنهم وليتركهم ، فإن لهم مع الله الواحد القهار موعدا سيعلمون حين يجيء كم كان ضلالهم وغيهم .
[ وأصل الصفح ليّ صفحة العنق فكني به عن الإعراض . { وقل } لهم { سلام } أي أمري سلام منكم ومتاركة ، فليس أمرا بالسلام عليهم والتحية ؛ وإنما هو أمر بالمتاركة . . . . وإن أريد بالآية الكف عن القتال فهي منسوخة ، وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة . والله تعالى أعلم ]{[4385]} .
هذه السور المحكمات كثير فيها السلطان المبين ، والحجة على المجادلين في الله رب العالمين ، وصُرفت فيها آيات تثبت اليقين في القرآن العظيم ، وتقص من أنباء المرسلين الموعظة والذكرى للمتقين ، وتنذر أهوال يوم الدين ، وتُمسّك بميثاق بر الوالدين والأولاد ، وما كتب علينا من فريضة الجهاد .
كم حضتنا كلمات ربنا الصادقات العادلات التامات على النظر والتفكر في خلق السماوات والأرض وما فيهما لتهدينا إلى جلال مولانا الخلاق العليم : { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون }{[1]} { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }{[2]} { الله الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون . والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون . والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون }{[3]} .
وكم جادل الكتاب الحكيم أهل الشرك والإفك : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين . ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون . وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين }{[4]} { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم . . }{[5]} { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة . . }{[6]} .
{ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون }{[7]} { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }{[8]} .
والكتاب العزيز نور للقلوب والألباب ، وفرقان بين الجور والصواب ، ومنّة وبرّ من المنعم الوهاب ، هذا رشده ورفده للمصدقين المستيقنين : { هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } منه سورة الجاثية ، الآية20 ؛ لكن الناهين عنه والنائين عنه يزدادون به خسرانا : { ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم . وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } من سورة الجاثية . الآيات : 7 ، 8 ، 9 ، والأفاك الذي يصرف الناس عن الحق بباطله .
والفرقان الهادي الشافي مجدته هذه السورة تمجيدا عزيزا فلم يوصف بأنه . ( عليّ ) عزيز الجناب إلا في سورة الزخرف ، وصدق الله موحيه{ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }{[9]} وسمي : ذكرا في مواطن ثلاثة منها ؛ وشرفت الليلة التي نزل فيها وبوركت حتى لها أعظم خيرا وأجرا من ثمانين سنة{[10]} : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك . . }{[11]} ؛ وامتن الحميد المجيد على النبي والناس كافة بأن هذا الحديث الرباني المبارك قد خضعت أئمة الجن ورعوا أماناته : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين }{[12]} ؛ وإذ رفع الله درجاتكم بهذا القرآن فاستمسكوا بشرعته ومنهاجه ، فإنه من يعرض عنه يخسر خسرانا لا ربح معه ويضل ضلالا بعيدا : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون }{[13]} ؛ ولا يفتننكم أعداء الحق ولو عن اليسير من مواثيقه فإن الشيطان سول وأملى لقوم أطاعوا المبطلين في شيء على غير سبيل القرآن المبين{ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر . . }{[14]} ، { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } .
وآيات من هذه السور الكريمة دمغت باطل عبدة الملائكة وأزهقت فرية من نسبوهم إلى الأنوثة ، يقول الحق جل علاه : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } { وجعلوا له من عباده جزاءا إن الإنسان لكفور مبين . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين . وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } .
وسنة ربنا فيمن بعث إليهم أنبياءه إذا عصوهم أن يدمرهم ، { وكم أرسلنا من نبي في الأولين . وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون . فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين }{[15]} ، وإذا استهزأ فرعون وملؤه بموسى وهارون أذاقهم الله العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون }{[16]} { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين . فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين }{[17]} ، { فما بكت عليهم السماء والأرض . . }{[18]} ؛ { أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم . . }{[19]} { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون }{[20]} .
وفتنة كثير من المكذبين الكبر ، فهم يقولون إذ بعث الله خاتم النبيين : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } ، والمفتون المتأله فرعون يقول ما بينه الذكر الحكيم : { . . أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين . فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين }{[21]} .
فَلْيَدْعُ أهل الحق مستيقنين بأن العاقبة للمتقين ، وليثبتوا على الرشد فإن الله مُظْهِر دينه على كل دين : { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أونرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون . فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم }{[22]} .
ودعوتنا لا تقبل مُوادّة للضالين ، لكن ولاءنا لله ولرسوله وللمؤمنين { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه . . }{[23]} .
وعن أحوال الآخرة وأهوالها صرف الله القول :
فقرين السوء مهما زوّر ودّا ، فإنه يوم الفصل يكون لقرينه عدوّا وضدّا{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون }{[24]} ، { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }{[25]} ، فلا تصاحب إلا مؤمنا ، ولا تأثم بمن تخالل أو تُؤثم عسى الله أن يجمعكما في دار الخلد والكرامة { إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين . يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون . إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم }{[26]} .
وجاءنا من ربنا برهان البعث : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق . . }{[27]} { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون }{[28]} { والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون }{[29]} ، { وإنا إلى ربنا لمنقلبون }{[30]} ؛ وبينت الآيات مصير المسيئين والمحسنين ، ولكل درجات مما عملوا ، وليس لأحد إلا ما سعى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ؛ ويوم الحساب لا يغني ولي عن ولي ، بل يتناكر الأصدقاء ويتنافرون ، ويتخاصمون ويتلاعنون ، إلا من اتقى فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ؛ فالسعيد من استيقن بالبعث ، وعمل ما يرضي مولاه ، وتحسن به عقباه ، ولم يتول إلا من أحب الله .
وما فُصّل القول الكريم في شراب أهل النعيم مثل ما فُصل في آيات سورة [ القتال ] : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى . . }{[31]} ، وجمعت آيات في سورة الزخرف أزواجا من الحبور النفسيّ والحسيّ ، كما عظمت مُتع العباد المؤمنين المسلمين ، وطعامهم وشرابهم وآنيتهم : { ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون . يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون }{[32]} ، كما هيبت مجالسهم وملابسهم { وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين }{[33]} .
فيا أيها العباد ! استجيبوا لدعوة مولاكم إلى نعيم ماله من نفاد ، واعملوا ما تبيض به الوجوه يوم التناد .
وإن أهوال الآخرة لتشيب منها الولدان ، ويتعادى فيها الخلان ، وتنشر صحائف البهتان ، الإثم والعدوان ، وتذل طوائف الكفر والعصيان : { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون }{[34]} ، { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون }{[35]} .
وبئس قرار الفجار ، لا ينفكون عن دار البوار{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون . لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون . وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } .
وفي رعاية الوالدين والذرية ، نُلقّى أكرم وصية { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي . . }{[36]} ، { والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبل وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق . . }{[37]} .
وللقرابة حق من يرعه فإن الله يرعاه ، ومن يضيعه يخسر في أولاه وأخراه : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم }{[38]} .
وبالقتال يتمحص الرجال ، ويميز الله الخبيث من الطيب فيجاهد المؤمن بالنفس والمال ، وأدعياء الأيمان ينفضون العهد من بعد ميثاقه ، فإذا التقى الجمعان ولو الأدبار ، وإذا دُعُوا إلى النفقة غُلّت أيديهم شُحّا أن يبذلوا الأموال ، فليتق الله من يبتغي حرث الآخرة ، وليجاهد في سبيل الله ومن يرد للإسلام وأهله نصرا ، يغفر الله خطاياه ، ويعظم له أجرا .