{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي : الأصناف جميعها ، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ، من ليل ونهار ، وحر وبرد ، وذكر وأنثى ، وغير ذلك . { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ } أي : السفن البحرية ، الشراعية والنارية ، مَا تَرْكَبُونَ { و } من { الأنعام ما تركبون لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ }
ثم وصف - سبحانه - ذاته بصفة ثالثة فقال : { والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا } أى : خلق أصناف وأنواع المخلوقات كلها . فالمراد بالأزواج هنا : الأصناف المختلفة من الذكر والأنثى . ومن غير ذلك من أنواع مخلوقاته التى لا تحصى .
قال - سبحانه - { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } وقوله - تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } أى : وسخر لكم بقدرته ورحمته من السفن التى تستعملونها فى البحر ، ومن الإِبل التى تستعملونها فى البر ، ما تركبونه وتحملون عليه أثقالكم ، وتنتقلون بواسطة من مكان إلى آخر .
فما فى قوله { مَا تَرْكَبُونَ } موصولة ، والعائد محذوف والجملة مفعول { جَعَلَ } وقوله : { مِّنَ الفلك والأنعام } بيان له مقدم عليه . أى : وجعل لكم ما تركبونه من الفلك والأنعام .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من هذا التذليل والتسخير للفلك والأنعام فقال : { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ }
ثم قال : { وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا } أي : مما تنبت الأرض من سائر الأصناف ، من نبات وزروع وثمار وأزاهير ، وغير ذلك [ أي ] {[25993]} من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ } أي : السفن { وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } أي : ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها ، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها ؛ ولهذا قال : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } {[25994]}
هذا الانتقال من الاستدلال والامتنان بخلق وسائل الحياة إلى الاستدلال بخلق وسائل الاكتساب لصلاح المعاش ، وذكر منها وسائل الإنتاج وأتبعها بوسائل الاكتساب بالأسفار للتجارة . وإعادة اسم الموصول لما تقدم في نظيره آنفاً .
والأزواج : جمع زوج ، وهو كل ما يصير به الواحد ثانياً ، فيطلق على كل منهما أنه زوج للآخر مثل الشفع . وغلب الزوج على الذكر وأنثاه من الحيوان ، ومنه { ثمانية أزواج } في سورة الأنعام ( 143 ) ، وتوسع فيه فأطلق الزوج على الصنف ومنه قوله : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] . وكلا الاطلاقين يصح أن يراد هنا ، وفي أزواج الأنعام منافع بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ونتاجها .
ولما كان المتبادرُ من الأزواج بادىء النظر أزواجَ الأنعام وكان من أهمها عندهم الرواحل عطف عليها ما هو منها وسائل للتنقل برّاً وأدمج معها وسائل السفر بحراً . فقال : { وجعل لكم من الفُلك والأنعام ما تركبون } فالمراد ب { ما تركبون } بالنسبة إلى الأنعام هو الإبل لأنها وسيلة الأسفار قال تعالى : { وآيةٌ لهم أنّا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [ يس : 41 ، 42 ] وقد قالوا : الإبلُ سفائن البر .
وجيء بفعل { جَعل } مراعاة لأن الفلك مصنوعة وليست مخلوقة ، والأنعام قد عُرف أنها مخلوقة لشمول قوله : { خلَق الأزواج } إياها . ومعنى جَعل الله الفلكَ والأنعامَ مركوبة : أنه خلق في الإنسان قوة التفكير التي ينساق بها إلى استعمال الموجودات في نفعه فاحتال كيف يصنع الفلك ويركب فيها واحتال كيف يَروض الأنعام ويركبها .
وقُدم الفلك على الأنعام لأنها لم يشملها لفظ الأزواج فذكرها ذكرُ نعمة أخرى ولو ذكر الأنعام لكان ذكره عقب الأزواج بمنزلة الإعادة . فلما ذكر الفلك بعنوان كونها مركوباً عطف عليها الأنعام فصار ذكر الأنعام مترقباً للنفس لمناسبة جديدة ، وهذا كقول امرىء القيس :
كأنيَ لم أركَبْ جواداً للــذةٍ *** ولم أتَبطن كاعباً ذات خَلْخَال
ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْ *** لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال
إذ أعقب ذكر رُكوب الجواد بذكر تبطّن الكاعب للمناسبة ، ولم يعقبه بقوله : ولم أقل لخيلي كري كرة ، لاختلاف حال الركوبين : ركوب اللّذة وركوب الحَرب .
والركوب حقيقته : اعتلاء الدابّة للسير ، وأطلق على الحصول في الفُلك لتشبيههم الفُلك بالدابّة بجامع السير فركوب الدابة يتعدّى بنفسه وركوب الفلك يتعدّى ب ( في ) للفرق بين الأصيل واللاحق ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها } في سورة هود ( 41 ) .
و { من الفلك والأنعام } بيان لإبهام { ما } الموصولة في قوله : { ما تركبون } . وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب ، وحذفُ مثله كثير في الكلام . وإذ قد كان مفعول { تركبون } هنا مبيَّناً بالفُلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر ب ( في ) فغلِّبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد ، وحُذف العائد بناء على ذلك التغليب .
واستعمال فعل { تركبون } هنا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه .