وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور الأنعام ، أي : لتستقروا عليها ، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها ، والثناء عليه تعالى بذلك ، ولهذا قال : { وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : لولا تسخيره لنا ما سخر من الفلك ، والأنعام ، ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه ، ولكن من لطفه وكرمه تعالى ، سخرها وذللها ويسر أسبابها .
{ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } والضمير فى { ظُهُورِهِ } يعود إلى { مَا } فى قوله { مَا تَرْكَبُونَ } وجاء مفردا رعاية للفظ { مَا } وجمع الظهور لأن المراد بالمركوب جنسه .
والاستواء : الاستعلاء على الشئ ، والتمكن منه ، أى : سخر لكم من السفن والأنعام ما تركبونه ، ولتسعلوا على ظهروه استلاء المالك على مملوكه .
{ ثُمَّ تَذْكُرُواْ } بعد كل هذا التمكن والاستعلاء { نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } أى : على تلك السفن والأنعام التى تركبونها .
والضمير فى { عَلَيْهِ } يعود - أيضا - الى { مَا } فى قوله { مَا تَرْكَبُونَ } باعتبار لفظ { وَتَقُولُواْ } على سبيل الشكر لله - تعالى - والاعتراف بفضله { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا } .
أى : وتقولوا : جل شأن الله ، وتنزه عن الشريك والمثيل ، فهو الذى سخر لنا هذا المركوب من الفلك والأنعام ، وجعله منقادا لنا ، طائعا لأمرنا .
{ وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أى : والحال أننا ما كنا لهذا المركوب الصعب بقادرين على التمكن منه ، لولا أن الله - تعالى - سخره لنا ، وجعله منقادا لأمرنا .
فقوله : { مُقْرِنِينَ } أى : مطيقين وقادرين وضابطين ، من أقرن الشئ ، إذا أطاقه وقدر عليه ، حتى لكأنه صار له قرنا ، أى : مثله فى الشدة والقوة .
والمقصود : ما كنا بقادرين أو بمطيقين لتذليل هذه السفن والأنعام ، لولا أن الله - تعالى - قد جعلها مناقدة لنا ، ومسخرة لخدمتنا .
ولا يخفى أن الجمل أقوى من الإِنسانن وأن البحر لو لم يذلله - سبحانه - لنا ، لما قدرت السفن على الجرى فيه .
قال القرطبى : قوله : { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أى : مطيقين . . أو ضابطين وفى أصله قولان : أحدهما : أنه مأخوذ من الإِقران ، يقال : أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق . وأقرنت كذا : أطقته وحكمته ، كأنه جعله فى قرَن - أى : حبل - فأوثقه به وشده .
والثانى : أنه مأخوذ من المقارنة ، وهو أن يقرن بعضها ببعض فى السير يقال : قرنت كذا بكذا إذا ربطته به ، وجعلته قرينه .
أي : لتستووا{[25995]} متمكنين مرتفقين { عَلَى ظُهُورِهِ } أي : على ظهور هذا الجنس ، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ } أي : فيما سخر لكم { إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : مقاومين . ولولا تسخير{[25996]} الله لنا هذا ما قدرنا عليه .
قال ابن عباس{[25997]} ، وقتادة ، والسدي وابن زيد : { مقرنين } أي : مطيقين . {[25998]}
ولذلك قال :{ لتستووا على ظهوره } أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى . { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها . { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه ، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف . وقرئ بالتشديد والمعنى واحد . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال { سبحان الذي سخر لنا هذا } إلى قوله : { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي راجعون ، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى ، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى .
واللام في قوله : { لتستووا } لام الأمر ، ويحتمل أن تكون لام كي ، و { ما } في قوله : { ما تركبون } واقعة على النوع المركوب ، والضمير في : { ظهوره } عائد على النوع الذي وقعت عليه { ما } .
وقد بينت آية ما يقال عند ركوب الفلك ، وهو : { باسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم }{[10185]} وإنما هذه خاصة فيما يركب من الحيوان ، ويقال عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين . والسنة للراكب إذا ركب أن يقول : الحمد لله على نعمة الإسلام ، أو على النعمة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو على النعمة في كل حال ، وقد روي هذا اللفظ عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { سبحان الذي }{[10186]} الآية ، وركب أبو مجلز لاحق بن حميد وقال : «سبحان الله » الآية ، ولم يذكر نعمة ، وسمعه الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال : ما هكذا أمرتم ، قال أبو مجلز ، فقلت له : كيف أقول ؟ قال : قل الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، أو نحو هذا ، ثم تقول بعد ذلك : { سبحان الذي } الآية ، وكان طاوس إذا ركب قال : اللهم هذا من منك وفضلك ، ثم يقول : { سبحان الذي } الآية ، وإن قدرنا أن ذكر النعمة هو بالقلب والتذكير بدأ الراكب : ب { سبحان الذي سخر } ، وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه .
والمقرن : الغالب الضابط المستولي على الأمر المطيق له . وروي أن بعض الأعراب ركب جملاً فقيل له قل : { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } فقال : أما والله إني لمقرن تياه ، فضرب به الجمل فوقصه فقتله .
والاستواء الاعتِلاء . والظهورُ : جمع ظَهر ، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك ، فهذا أيضاً من التغليب . والمعنى : على ظهوره وفي بطونه . فضمير { ظهوره } عائد إلى { ما } الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان ، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور ، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ . ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرففِ { على } بنيت على أن للسفينة ظهراً قال تعالى : { فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك } [ المؤمنون : 28 ] .
وقد جُعل قوله : { لتستووا على ظهوره } توطئة وتمهيداً للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله : { ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه } أي حينئذٍ ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها . وأجدر بعدم الذهول عنها ، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها ، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان .
وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام . وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفاً فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة .
وعطف على { تذكروا نعمة ربّكم } قوله : { وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا } ، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم ، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة .
وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق ، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمناً على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي . واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكراً لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا . واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة .
والتسخير : التذييل والتطويع . وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب ، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحاً لسبح السفن على مائه ، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء ، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك ، ورصد مهابّ الرياح ، ووضع القلوع والمجاذيف ، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية . ولهذا عقب بقوله : { وما كنّا له مُقْرِنين } أي مطيقين ، أي بمجرد القوة الجسدية ، أي لولا التسخير المذكور ، فجملة { وما كُنَّا له مقرنين } في موضع الحال من ضمير { لنا } أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائماً مقام القوة .
والمُقرن : المطيق ، يقال : أقرن ، إذا أطاق ، قال عمرو بن معديكرب :
لقد علم القبائل ما عُقَيل *** لنا فِي النائبات بمُقْرِنينا
وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله ، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء ، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث .
وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالماً إلى أهله .