وبعد هذا البيان المعجز لمظاهر قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده ، وهيمنته على شئون خلقه . . أخذت السورة المريكة فى تسلية النبى صلى الله عليه وسلم وفى دعوة الناس إلى اتباع ما جاءهم به هذا النبى الكريم ، وفى بيان مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، فقال - تعالى - : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ . . . عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .
قال الآلوسى : قوله : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } تسلية له صلى الله عليه وسلم بعموم البلية ، والوعد له صلى الله عليه وسلم والوعيد لأعدائه .
والمعنى : وإن استمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين . . فتأس بأولئك الرسل فى الصبر ، فقد كذبهم قومهم فصبروا على تذكيبهم . فجملة { فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } قائمة مقام جواب الشرط ، والجواب فى الحقيقة تأس . وأقيمت تلك الجملة مقامه ، اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب . .
وجاء لفظ الرسل بصيغة التنكير ، للإِشعار بكثرة عددهم ، وسمو منزلتهم .
أى : وإن يكذبك - أيها الرسول الكريم - قومك ، فلا تخزن ، ولا تبتئس ، فإن إخوانك من الأنبياء الذين سبقوك ، قد كذبهم أقوامهم ، فأنت لست بدعا فى ذلك .
ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله . . } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يزيد فى تسليته صلى الله عليه وسلم فقال : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } .
أى : وإلى الله - تعالى - وحده ترجع أمور الناس وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم . وسيجازى - سبحانه - الذين أساءوا بما عملوا ، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ * يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك فلا يحزننك ذاك ، ولا يعظم عليك ، فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرة الأمم بالله ، من قبلهم ، وتكذيبهم رسل الله التي أرسلها إليهم من قبلك ، ولن يعدو مشركو قومك أن يكونوا مثلهم ، فيتبعوا في تكذيبك منهاجهم ، ويسلكوا سبيلهم وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يقول تعالى ذكره : وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم ، فمحلّ بهم العقوبة ، إن هم لم ينيبوا إلى طاعتنا في اتباعك ، والإقرار بنبوّتك ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة ، نظير ما أحللنا بنظرائهم من الأمم المكذّبة رسلها قبلك ، ومنجّيك وأتباعك من ذلك ، سنتنا بمن قبلك في رسلنا وأوليائنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ يُكَذّبوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعزّي نبيه كما تسمعون .
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما سلف من حال الرسل مع الأمم ، و { الأمور } تعم جميع الموجودات المخلوقات إلى الله مصير جميع ذلك على اختلاف أحوالها ، وفي هذا وعيد للكفار ووعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وعظ عز وجل جميع العالم وحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها الشاغلة عن المعاد الذي له يقول الإنسان : { يا ليتني قدمت لحياتي } [ الفجر : 24 ] ولا ينفعه ليت يومئذ ، وحذر غرور الشيطان .
عطف على جملة { اذكروا نعمت الله عليكم } [ فاطر : 3 ] أي وإن استمرّوا على انصرافهم عن قبول دعوتك ولم يشكروا النعمة ببعثك فلا عجب فقد كذب أقوام من قبلهم رسلاً من قبل . وهو انتقال من خطاب الناس إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبة جريان خطاب الناس على لسانه فهو مشاهد لخطابهم ، فلا جرم أن يوجه إليه الخطاب بعد توجيهه إليهم إذ المقام واحد كقوله تعالى : { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 29 ] .
وإذ قد أبان لهم الحجة على انفراد الله تعالى بالإِلهية حين خاطبهم بذلك نُقِلَ الإِخبار عن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنكروا قبوله منه فإنه لما استبان صدقه في ذلك بالحجة ناسب أن يُعرَّض إلى الذين كذبوه بمثل عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبله وقد أدمج في خلال ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه إياه بأنه لم يكن مقامه في ذلك دون مقام الرسل السابقين .
وجيء في هذا الشرط بحرف { إِنْ } الذي أصله أن يعلق به شرط غير مقطوع بوقوعه تنزيلاً لهم بعد ما قدمت إليهم الحجة على وحدانية الله المصدقة لما جاءهم به الرسول عليه الصلاة والسلام فكذبوه فيه ، منزلة من أيقن بصدق الرسول فلا يكون فرض استمرارهم على تكذيبه إلا كما يفرض المحال .
وهذا وجه إيثار الشرط هنا بالفعل المضارع الذي في حيّز الشرط يتمخض للاستقبال ، أي إن حدث منهم تكذيب بعد ما قرع أسماعهم من البراهين الدامغة .
والمذكور جواباً للشرط إنما هو سبب لجواب محذوف إذ التقدير : وإن يكذبوك فلا يحزنك تكذيبهم إذ قد كذبت رسل من قبلك فاستُغني بالسبب عن المسبب لدلالته عليه .
وإنما لم يعرّف { رسل } وجيء به منكّراً لما في التنكير من الدلالة على تعظيم أولئك الرسل زيادة على جانب صفة الرسالة من جانب كثرتهم وتنوع آيات صدقهم ومع ذلك كذبهم أقوامهم .
وعطف على هذه التسلية والتعريض ما هو كالتأكيد لهما والتذكير بعاقبة مضمونها بأن أمر المكذبين قد آل إلى لقائهم جزاء تكذيبهم من لدن الذي ترجع إليه الأمور كلها ، فكان أمر أولئك المكذبين وأمر أولئك الرسل في جملة عموم الأمور التي أرجعت إلى الله تعالى إذ لا تخرج أمورهم من نطاق عموم الأمور .
وقد اكتسبت هذه الجملة معنى التذييل بما فيها من العموم .
و { الأمور } جمع أمر وهو الشأن والحال ، أي إلى الله ترجع الأحوال كلها يتصرف فيها كيف يشاء ، فتكون الآية تهديداً للمكذبين وإنذاراً .