{ يوم لا تملك } قرأ أهل مكة والبصرة : { يوم } برفع الميم ، رداً على اليوم الأول ، وقرأ الآخرون بنصبها ، أي : في يوم ، يعني : هذه الأشياء في يوم لا تملك { نفس لنفس شيئاً } قال مقاتل : يعني لنفس كافرة شيئاً من المنفعة ، { والأمر يومئذ لله } أي : يوم لا يملك الله في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملكهم في الدنيا .
ثم فصل - سبحانه - جانبا من أهواله فقال : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أى : يوم الدين والجزاء هو اليوم الذى لا تملك فيه نفس لغيرها شيئا من النفع . وإنما الذى ينفع فيه هو الإِيمان والعمل الصالح ، والأمر فيه لله - تعالى - وحده ، ولا سلطان ولا تصرف لأحد سواه .
وقوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ . . . } بيان ليوم الدين . وقد قرأ بعض القراء السبعة { يوم } بالنصب على أنه منصوب بفعل محذوف . أى : اذكر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا .
وقرأ البعض الآخر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى : هو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا . . أو على أنه بدل من " يوم الدين " .
وهكذا اختتمت السورة الكريمة كما بدئت بالتهويل من شأن يوم القيامة ، ليزداد العقلاء استعداداً له ، عن طريق الإِيمان والعمل الصالح الذى يرضى الله - تعالى - .
ثم فسره بقوله : { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }أي : لا يقدر واحد{[29825]} على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى .
ونذكر هاهنا حديث : " يا بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار ، لا أملك لكم من الله شيئا " . وقد تقدم في آخر تفسير سورة " الشعراء " ؛ ولهذا قال : { وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } كقوله { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، وكقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] ، وكقوله { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] .
قال قتادة : } يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والأمر - والله - اليوم لله ، ولكنه يومئذ لا ينازعه أحد .
وله : ثُمّ ما أدْرَاكَ ما يَوْمُ الدّينِ ؟ يقول : ثم أيّ شيء أشعرك أيّ شيء يوم المجازاة والحساب يا محمد ، تعظيما لأمره ثم فسّر جلّ ثناؤه بعض شأنه فقال : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا : يقول : ذلك اليوم ، يوم لا تملك نفس ، يقول : يوم لا تُغني نفس عن نفس شيئا ، فتدفع عنها بليّة نزلت بها ، ولا تنفعها بنافعة ، وقد كانت في الدنيا تحميها ، وتدفع عنها من بغاها سوءا ، فبطل ذلك يومئذٍ ، لأن الأمر صار لله الذي لا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر ، واضمحلت هنالك الممالك ، وذهبت الرياسات ، وحصل الملك للملك الجبار ، وذلك قوله : وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يقول : والأمر كله يومئذٍ ، يعني الدين لله دون سائر خلقه ، ليس لأحد من خلقه معه يومئذٍ أمر ولا نهي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ قال : ليس ثم أحد يومئذٍ يقضي شيئا ، ولا يصنع شيئا إلاّ ربّ العالمين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ والأمر والله اليوم لله ، ولكنه يومئذٍ لا ينازعه أحد .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة بنصب يَوْمَ إذ كانت إضافته غير محضة . وقرأه بعض قرّاء البصرة بضم «يَوْمُ » ورفعه ردّا على اليوم الأوّل ، والرفع فيه أفصح في كلام العرب ، وذلك أن اليوم مضاف إلى يفعل ، والعرب إذا أضافت اليوم إلى تفعل أو يفعل أو أفعل رفعوه فقالوا : هذا يوم أفعل كذا ، وإذا أضافته إلى فعل ماضٍ نصبوه ومنه قول الشاعر :
عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصّبا *** وقُلْتُ ألَمّا تَصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ ؟
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب : «يومُ لا تملك » برفع الميم من «يومُ » على معنى هو يوم ، وقرأ الباقون والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج : «يومَ » بالنصب على الظرف ، والمعنى : الجزاء يوم فهو ظرف في معنى خبر الابتداء ، ثم أخبر تعالى بضعف الناس يومئذ وأنه لا يغني بعضهم عن بعض وأن الأمر له تبارك وتعالى ، وقال قتادة كذلك : هو اليوم ولكنه هنالك لا ينازعه أحد ولا يمكن هو أحداً في شيء منه كما يمكنه في الدنيا .
{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } .
في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله : { وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين } [ الانفطار : 17 ، 18 ] إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهوَّل لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين .
وقرأه الجمهور بفتح { يوم } فيجوز أن يجعل بدلاً مطابقاً ، أو عطف بيان من { يومُ الدين } المرفوع ب { ما أدراك } وتجعل فتحتُه فتحةَ بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى جملة فعلية وكان فعلها معرباً جاز في اسم الزمان أن يبنى على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل .
ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً مطابقاً من { يوم الدين } المنصوب على الظرفية في قوله : { يَصلونها يومَ الدين } [ الانفطار : 15 ] ، ولا يفوت بيان الإِبهام الذي في قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } [ الانفطار : 17 ] لأن { يومُ الدين } المرفوع المذكور ثانياً هو عين { يوم الدين } المنصوب أولاً ، فإذا وقع بيان للمذكور أولاً حصل بيان المذكور ثانياً إذ مدلولهما يوم متّحد .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعاً ، فيتعين أن يكون بدلاً أو بياناً من { يوم الدين } الذي في قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } .
ومعنى { لا تملك نفس لنفس شيئاً } : لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى ، أي لنَفعها ، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفِع بالفعل عكسَ ( على ) ، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وما أملك لك من اللَّه من شيء } في سورة الممتحنة ( 4 ) .
وعموم { نفس } الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس .
و { شيئاً } اسم يدل على جنس الموجود ، وهو متوغل في الإِبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما ، أو من السياق ، ويبينه هنا ما دلّ عليه فعل { لا تملك } ولام العلة ، أي شيئاً يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى : { وما أغني عنكم من اللَّه من شيء } في سورة يوسف ( 67 ) ، فانتصب { شيئاً } على المفعول به لفعل { لا تملك } ، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفساً أخرى .
وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } [ الأنعام : 94 ] .
وجملة { والأمر يومئذ للَّه } تذييل ، والتعريف في { الأمر } للاستغراق . والأمر هنا بمعنى : التصرف والإِذن وهو واحد الأوامِر ، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفاً للشيء فتغيير التعبير للتفنن .
والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإِرادة الاستغراق ، فيعم كل الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلاً .
وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل ، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى : { الحمد للَّه } [ الفاتحة : 2 ] .
وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدىء بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله .