مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡـٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ} (19)

المسألة الثالثة : في : { يوم لا تملك } قراءتان الرفع والنصب ، أما الرفع ففيه وجهان ( أحدهما ) : على البدل من يوم الدين ( والثاني ) : أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك ، وأما النصب ففيه وجوه ( أحدها ) : بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه ( وثانيها ) : بإضمار اذكروا ( وثالثها ) : ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله : { لا تملك } وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال :

لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت *** حمامة في غصون ذات أو قال

فبنى غير على الفتح لما أضيف إلى قوله إن نطقت ، قال الواحدي : والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل وسيبويه ، إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي ، نحو قولك على حين عاتبت ، أما مع الفعل المستقبل ، فلا يجوز البناء عندهم ، ويجوز ذلك في قول الكوفيين ، وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } ( ورابعها ) : ما ذكره أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر الأمر ظرفا ترك على حالة الأكثرية ، والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله : { منهم الصالحون ومنهم دون ذلك } ولا يرفع ذلك أحد . ومما يقوي النصب قوله : { وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس } وقوله : { يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون } فالنصب في { يوم لا تملك } مثل هذا .

المسألة الرابعة : تمسكوا في نفي الشفاعة للعصاة بقوله : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } وهو كقوله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } ( والجواب ) : عنه قد تقدم في سورة البقرة .

المسألة الخامسة : أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضا في أمور ، ويحمى بعضهم بعضا ، فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بني الدنيا وزالت رياستهم ، فلا يحمي أحد أحدا ، ولا يغني أحد عن أحد ، ولا يتغلب أحد على ملك ، ونظيره قوله : { والأمر يومئذ لله } وقوله :

{ مالك يوم الدين } وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء . قال الواحدي : والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور ، كما ملكهم في دار الدنيا . قال الواسطي : في قوله : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } إشارة إلى فناء غير الله تعالى ، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات ، فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه .

وأما قوله : { والأمر يومئذ لله } فهو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله ، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال ، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر ، لا إلى أحوال المنظور إليه ، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات ، كما قال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «كأني أنظر وكأني وكأني » والله سبحانه وتعالى أعلم .

والحمد لله رب العالمين .