ثم صور - سبحانه - إعراضهم عن الحق ، ونفورهم عن شريعة الله - تعالى - فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } .
أى : وإذا قيل لهؤلاء المنافقين أقبلوا على حكم الله وحكم رسوله ، فإن الخير كل الخير فيما شرعه الله وقضاه ، إذا ما قيل لهم ذلك { رَأَيْتَ المنافقين } الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، رأيتم لسوء نواياهم ، ولؤم طواياهم { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } أى يعرضون عنك - يا محمد - إعراضا شديدا .
وقوله { تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول } إغراء لهم بتقبل الحق ، وحض لهم على الامتثال لشريعة الله ؛ لأنها هى الشريعة التى فيها سعادتهم ، ولكنهم لمرض قلوبهم ينفرون من الحكم المنزل من السماء إلى حكم الطاغوت الباطل .
وقال - سبحانك - { رَأَيْتَ المنافقين } ولم يقل رأيتهم بالإِضمار ؛ لتسجيل النفاق عليهم ، وذمهم به ، وللإِشعار بعلة الحكم اى : رأيتهم لنفاقهم يصدون عنك صدودا .
وقوله { صُدُوداً } مصدر مؤكد بفعله أى : يعرضون عنك إعراضا تاما بحيث لا يريدون أن يسمعوا منك شيئاً ، لأن حكمك لا يناسب أهواءهم .
فذكر المصدر هنا للتأكيد والمبالغة فكأنه قيل : صدودا أى صدود .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت علامة جلية من علامات المنافقين حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم ، وهى أنهم إذا ما دعوا إلى حكم الله الذى يزعمون أنهم آمنوا به ، أعرضوا عن هذا الحاكم إعراضا شديدا ، وظهر بذلك كذبهم ونفاقهم .
هذا إنكار من الله ، عز وجل ، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية : أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد . وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف . وقيل : في جماعة من المنافقين ، ممن أظهروا الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية . وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ]{[7822]} } .
وقوله : { يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } أي : يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك ، كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [ لقمان : 21 ]هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين ، الذين قال الله فيهم : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [ وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ]{[7823]} } [ النور : 51 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُوداً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ألم تر يا محمد إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين ، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب ، يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت ، { وإذَا قِيلَ لهم تَعَالوْا إلى ما أَنْزَلَ الله } يعني بذلك : وإذا قيل لهم : تعالوا هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه ، { وإلى الرّسُولِ } ليحكم بيننا ، { رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ } يعني بذلك : يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم ، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم صدودا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللّهُ وَإلى الّرسُولِ } قال : دعا المسلم المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم ، قال : رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا .
وأما على تأويل قول من جعل الداعي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهوديّ والمدعو إليه المنافق على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } فإنه على ما بينت قبل .
وقرأ الجمهور «تَعالَوا » بفتح اللام ، وقرأ الحسن فيما روى عنه قتادة «تعالُوا » بضمة ، قال أبو الفتح : وجهها أن لام الفعل من «تعاليت » حذفت تخفيفاً ، وضمت اللام التي هي عين الفعل ، وذلك لوقوع واو الجمع بعدها ، كقولك : تقدموا وتأخروا ، وهي لفظة مأخوذة من العلو ، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه ، سيقت من العلو تحسيناً للأدب ، كما تقول : ارتفع إلى الحق ، ونحوه{[4128]} .
و{ رأيت } هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحاً ، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه ، فإذا كانت رؤية عين ف { يصدون } في موضع نصب على الحال ، وإذا كانت رؤية قلب ف { يصدون } نصب على المفعول الثاني ، و { صدوداً } مصدر عند بعض النحاة من صد ، وليس عند الخليل بمصدر منه ، والمصدر عنده «صداً » وإنما ذلك لأن فعولاً إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية ، كجلس جلوساً ، وقعد قعوداً و «صد » فعل متعد بنفسه مرة كما قال : { فصدهم عن السبيل }{[4129]} ، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى : { يصدون عنك صدوداً } وغيره ، فمصدره : صد ، و { صدوداً } اسم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله} في كتابه، {وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا}: يعرضون عنك يا محمد إعراضا إلى غيرك، مخافة أن تحيف عليهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ألم تر يا محمد إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت، {وإذَا قِيلَ لهم تَعَالوْا إلى ما أَنْزَلَ الله}: وإذا قيل لهم: هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، {وإلى الرّسُولِ} ليحكم بيننا، {رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ}: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم صدودا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الصدود هو: الإعراض في اللغة. والصد: الصرف.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(يصدون عنك صدودا)؛ قيل في سبب صد المنافقين عن النبي (صلى الله عليه وآله) قولان: أحدهما: لعلهم بأنه لا يأخذ الرشا على الحكم وأنه يحكم بمر الحق. والثاني: لعداوتهم للدين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {رأيت} هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحاً، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت، ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {وإذا قيل لهم} أي من أي قائل كان {تعالوا} أي أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم {إلى ما أنزل الله} أي الذي عنده كل شيء {وإلى الرسول} أي الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع أنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة، رأيتهم -هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف الذي دل على كذبهم فيما زعموه من الإيمان فقال: {رأيت المنافقين يصدون} أي يعرضون {عنك} وأكد ذلك بقوله: {صدوداً} أي هو في أعلى طبقات الصدود.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
صرح في هذه الآية بما دلت عليه التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم كتاب الله وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء وناهيك بمن فعل ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمه لا يكون إلا حقا ما بينت الدعوى على حقيقتها لأن الحكم بحسب الظاهر، وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ بجهل القاضي بالحكم أو بتطبيقه على الدعوى. يقول تعالى وإذا قيل لأولئك الذين يزعمون أنهم آمنوا وهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن لنعمل به ونحكمه فيما بيننا وإلى الرسول ليحكم بيننا بما أراه الله رأيت المنافقين أي رأيتهم وهم المنافقون جاء بالظاهر بدل الضمير ليبين حالهم وحال أمثالهم بالنص ويبني عليه ما بعده وهو أثره يصدون عنك صدودا أي يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضا متعمدا منهم. وهو هنا من "صد "اللازم. والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدا ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به فإنه يكون منافقا لا يعتد بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام، وهي حجة الله البالغة على المقلدين لبعض الناس فيما استبان حكمه في الكتاب والسنة ولا سيما إذا دعوا إليه ووعظوا به. قال الأستاذ الإمام: إن الحامل لهم على هذا الصدود هو اتباع شهواتهم وإلفتهم للباطل، وعدو الحق يعرض عنه إعراضا شديدا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله.. ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به: (وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) يا سبحان الله! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري.. وإلا ما كان نفاقا... إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به، وإلى من آمن به. فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه. ثم دعي إلى هذا الذي آمن به، ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه؛ كانت التلبيه الكاملة هي البديهية الفطرية. فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية. ويكشف عن النفاق. وينبى ء عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان! وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله -سبحانه- أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله. ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله. بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدودا!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي الآية الكريمة إشارتان بيانيتان:
إحداهما: التعبير بقوله تعالى: {إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} فإن هذا يبين لهم أنهم يتركون الحكم المنزل من السماء من عند الله إلى حكم الأرض وأهواء أهلها، ويبين لهم أن الرجوع في الحكم إلى الرسول هو رجوع إلى حكم الله الذي ينطق به رسوله الأمين، وأن امتناعهم عن ذلك إنكار للرسالات الإلهية مع أنهم من أهل الكتاب، الذين يعتزون على العرب بأنهم يؤمنون بشرائع السماء وغيرهم أميون!! ثم يبين ذلك أن الخضوع لحكم الرسول خضوع لحكم الله تعالى وما أنزله الله، فالمعترض على حكم الرسول معترض على الله سبحانه وتعالى.
الثانية: في قوله تعالى: {رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} فإنه يشير إلى أن الذين يعرضون عن حكم الله تعالى وينفرون منه هم المنافقون الذين يسرون ما لا يظهرون ويخفون ما لا يبدون، فالإعراض عن حكم الله تعالى سمة من سمات النفاق أو بالأحرى أوضحها وأبينها. والنص يشير مع هذا إلى أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت فريقان: فريق ضعيف الإيمان، وفريق منافق، وأن المنافقين من بينهم شديدو النفرة والإعراض. اللهم إلا أن يقال إن ذلك إظهار في موضع الإضمار، أي أن الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وبالرسول، الذين يرتضون حكم الطاغوت هم منافقون، وهو بسبب نفاقهم يعرضون عن حكم الله إعراضا شديدا، فهم طائفة واحدة! وأظهر وصفهم ليعلم أنه علة إعراضهم، وهذا ما نرتضيه، ويتفق مع قوله تعالى من قبل {يزعمون أنهم آمنوا}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إِلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إِلى الطّواغيت وحكام الجور والباطل
ففي الآية الأُولى يقول سبحانه: (وإذا قيل لهم تعالوا إِلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً). وفي الحقيقة يقول القرآن في هذه الآية: إِنّ التحاكم إِلى الطاغوت ليس خطأً عابراً يمكن أن يعالج ببعض التذكير، بل إِنّ الإِصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم، وإلاّ لوجب أن ينتبهوا ويتوبوا إِلى رشدهم على دعوة رسول الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ويعترفوا بخطئهم: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً).