وبعد أن اطمأن السحرة على الأجر ، وتطلعت نفوسهم إليه ، يحكى لنا القرآن أنهم توجهوا إلى موسى بلغة الواثق من قوته ، المتحدى لخصمه : { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } .
أى : أنت يا موسى مخير بين أن تلقى عصاط أولا ؛ وبين أن نلقى نحن أولا وأنت تفعل ما تشاء بعدنا ، وكأنهم يقولون له : وفى كلتا الحالتين فنحن على قة من الفوز والنصر فأرح نفسك واستسلم لنا مقدما .
ويرى الزمخشرى أن تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا في الصراع .
فلما توثقوا من فرعون لعنه الله : { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } هذه مبارزة من السحرة لموسى ، عليه السلام ، في قولهم : { إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } أي : قَبْلك . كما قال{[12009]} في الآية الأخرى : { وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } [ طه : 65 ]
قَالُوا يَا مُوسَى يقول : قالت السحرة لموسى : يا موسى اختر أن تلقي عصاك ، أو نلقي نحن عصينا ولذلك أدخلت «أن » مع «إما » في الكلام لأنها في موضع أمر بالاختيار ، فإن «أنْ » في موضع نصب لما وصفت من المعنى ، لأن معنى الكلام : اختر أن تلقي أنت ، أو نلقي نحن ، والكلام مع «إما » إذا كان على وجه الأمر ، فلا بدّ من أن يكون فيه «أن » كقولك للرجل إما أن تمضيَ ، وإما أن تقعد ، بمعنى الأمر : امض أو اقعد ، فإذا كان على وجه الخبر لم يكن فيه أن كقوله : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاِءَمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبُهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهذا هو الذي يسمى التخيير ، وكذلك كلّ ما كان على وجه الخبر ، و«إما » في جميع ذلك مكسورة .
وقوله تعالى : { قالوا يا موسى إما أن تلقي } الآية ، { أن } في قوله { إما أن } في موضع نصب أي إما أن تفعل الإلقاء ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع أي إما هو الإلقاء ، وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا فعل المدل الواثق بنفسه ، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحجج ، لأن بديلتهما تمضي بالنفس ، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه ووثق بالحق فأعطاهم التقدم فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا يا موسى}، فقالت السحرة لموسى: {إما أن تلقي} ما في يدك، يعني عصاه، {وإما أن نكون نحن الملقين} ما في أيدينا من الحبال والعصي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قَالُوا يَا مُوسَى يقول: قالت السحرة لموسى: يا موسى اختر أن تلقي عصاك، أو نلقي نحن عصينا، ولذلك أدخلت «أن» مع «إما» في الكلام لأنها في موضع أمر بالاختيار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...هذا ليس على إلقاء هذا وترك أولئك الإلقاء؛ لأنه لو كان على إلقاء أحدهما لكان لا يتبيّن السحر من الآية. لكن إلقاء الأول؛ كأنهم {قالوا يا موسى إما أن تلقي} أولا، وإما نحن الملقون أول مرة، وهو ما ذكر في آية أخرى. {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى} [طه: 65].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين، قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم: {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} فيه ما يدلّ على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذا فعل المدل الواثق بنفسه، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحجج، لأن بديلتهما تمضي بالنفس، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه ووثق بالحق فأعطاهم التقدم فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل، وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الإسمية إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغوا من محاورته، تشوف السامع إلى قولهم لموسى عليه السلام، فاستأنف قوله جواباً: {قالوا} بادئين باسمه {يا موسى} مخيرين له أدباً معه كما هي عادة عقلاء الأخصام قبل وقوع الخصام في سياق مفهم أن قصدهم الإلقاء أولاً، وذلك قولهم: {إما أن تلقي} أي أنت أولاً ما تريد أن تلقيه للمغالبة في إظهار صحة دعواك {وإما أن نكون نحن} أي خاصة {الملقين} أي لما معنا أولاً. ولما فهم موسى عليه السلام مرادهم مما عبر هذا النظم عن حقيقة معناه من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل، وكان واثقاً من الله تعالى بما وعده به جارياً مع مراده، لا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر؛ أجابهم إلى سؤالهم. وهو أوقع في ازدراء شأنهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما تخييرهم إياه فلثقتهم بأنفسهم، واعتدادهم بسحرهم، أو إرهابا له، وإظهارا لعدم المبالاة به، مع العلم بأن المتأخر يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى شوط خصمه، وما قيل من أن علة التخيير مراعاة الأدب لا وجه [له] البتة، بل مقامهم بحضرة ملكهم الذي يدعي الألوهية والربوبية فيهم وما طلبوه منه وما وعدهم إياه –كله يقتضي أن يحتقروا خصمه لا أن يتأدبوا معه كما يتأدب أهل الصناعة الواحدة بعضهم مع بعض إذا تلاقوا للمباراة وهو ما وجه الزمخشري به التعليل. وما قاله البيضاوي وغيره من أن علته إظهار التجلد فضعيف إذ لم يروا من موسى شيئا بأعينهم يقتضيه وإنما سمعوا أنه ألقى عصاه بحضرة فرعون فصارت ثعبانا فاستعدوا لمقابلته بعصي وحبال كثيرة يخيل إليه وإلى كل ناظر أنها ثعابين تسعى فيطلبون سحره بسحر مثله كما قال ملكهم {فلنأتينّك بسحر مثله} [طه: 58]...