اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِمَّآ أَن تُلۡقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِينَ} (115)

قوله : { إِمَّا أَن تُلْقِيَ } : إمَّا هنا للتخيير ، ويطلق عليها حرف عطف مجازاً .

قال المفسرُون : " تأدَّبوا مع موسى - عليه السلام - فكان ذلك سبب إيمانهم " .

قال الفرَّاءُ والكسائِيُّ{[16686]} في باب " أمّا " : و " إمّا " إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة ، وإذا كنت مشترطاً أو شاكّاً أو مخيراً فهي مكسورةٌ ، تقول في المفتوحة : أمّا اللَّه فاعْبُدْه ، وأما الخمرُ فلا تَشْرَبها وأما زيد فقد خَرَجَ ، فإن كنت مشترطاً فتقول : إمّا تعطينَّ زيداً فإنه يشكرك قال تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم } [ الأنفال : 57 ] ، وتقولُ في الشَّكِّ : لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقولُ في التَّخْيير : لي في الكوفة دارٌ إما أن أسْكُنَهَا وإمَّا أن أبيعها .

والفرق بين " إمّا " إذا كانت للشكِّ وبين " أو " أنك إذا قلت : " جاءني زَيْدٌ أو عمرو " فقد يجوزُ أن تكون قد بنيت كلامك على اليقينِ ثم أدركك الشّك فقلت : أو عمرو ، فصار الشك فيهما ، فأوَّلُ الاسمين في " أو " يجوز أن يحسن السكوت عليه ، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ؛ ألا ترى أنَّكَ تَقُولُ : قام أخُوكَ وتسكت ثم تشكُّ فتقول : أو أبوك .

وإذا ذكرت " إمّا " فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك ، فلا يجوز أن تقول : ضربت إمَّا عبد الله وتسكت . وفي محل : { أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ } ثلاثة أوجه :

أحدها : النصب بفعلٍ مقدَّر أي : افعل إمَّا إلقاءك وإما إلقاءنا ، كذا قدّره أبو حيَّان ، وفيه نظر ؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي : اختر إمَّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا .

وقدره مكي{[16687]} وأبو البقاءِ{[16688]} فقالا : " إمَا أن تَفْعَلَ الإلقاء " .

قال مَكِّيٌّ : كقوله : [ البسيط ]

قَالُوا : الرُّكُوبَ فَقُلْنَا : تِلْكَ عَادَتُنَا *** . . . {[16689]}

بنصب " الركوب " إلا أنَّهُ جعل النَّصْبَ مذهب الكوفيين .

الثاني : الرفع على خبر ابتداءٍ مضمر تقديره : أمْرُك إمَّا إلقاؤك وإما إلقاؤُنا .

الثالث : أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمَّا لقاؤك مبدوءٌ به ، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به .

فإن قيل : كيف دخلت " أن " في قوله : { إِمَّا أَن تُلْقِيَ } وسقطت من قوله : { إما يعذبهم وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] .

فالجواب قال الفراء : دخول " أن " في " إما " في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار ، وهي في موضع نصب كقولك : اختر ذا أو ذا ، كأنَّهُم قالوا : اختر أن تلقي أو نلقي ، وفي آية التَّوْبَةِ ليس فيها أمر بالتخيير ؛ ألا ترى أنَّ الأمر لا يَصْلُحُ هاهنا فلذلك لم يكن فيه " أن "

وقال غيره : " إنَّما أتى هنا ب " أن " المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] . لأن " أن " وما بعدها هنا : إمّا مفعول به أو مبتدأ ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً ، بل لا بُدَّ أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسمٍ ، وأما آية التَّوبةِ فالفعلُ بعد " إمّا " خبر ثان ل " آخرُونَ " ، وإمَّا صفة له ، والخبرُ والصِّفةُ يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري .

وحذف مفعولُ الإلقَاءِ للعلم به والتقدير : إمَّا أن تُلْقي حبالَكَ وعِصِيَّك - لأنَّهُم كانوا يَعْتَقِدُونَ أن يفعل كفعلهم - أو نلقي حبالنا وعصِيَّنا .


[16686]:ينظر: تفسير الرازي 14/165.
[16687]:ينظر: المشكل 1/325.
[16688]:ينظر: الإملاء 1/182.
[16689]:تقدم.