{ والليل إذ أدبر } قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب { إذ } بغير ألف ، { أدبر } بالألف ، وقرأ الآخرون " إذا " بالألف ، " دبر " بلا ألف ، لأنه أشد موافقة لما يليه ، وهو قوله : { والصبح إذا أسفر }( المدثر-34 ) ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه ( إذ ) وإنما بجانب الأقسام ( إذا ) ، وكلاهما لغة ، يقال : دبر الليل وأدبر .
يعني تعالى ذكره بقوله كَلاّ : ليس القول كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابَه المشركين خزنةُ جهنم حتى يجهضهم عنها ثم أقسم ربنا تعالى فقال : وَالقَمَرِ وَاللّيْل إذْ أدْبَرَ يقول : والليل إذ ولّى ذاهبا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاللّيْل إذْ أدْبَرَ : إذ ولّى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : والليل إذْ أدْبَرَ دبوره : إظلامه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة إذْ أدْبَرَ ، وبعض قرّاء مكة والكوفة : «إذا دَبَرَ » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك ، فقال بعض الكوفيين : هما لغتان ، يقال : دبر النهار وأدبر ، ودبر الصيف وأدبر قال : وكذلك قَبل وأقبل فإذا قالوا : أقبل الراكب وأدبر لم يقولوه إلا بالألف . وقال بعض البصريين : «واللّيْل إذَا دَبَرَ » يعني : إذا دبر النهار وكان في آخره قال : ويقال : دبرني : إذا جاء خلفي ، وأدبر : إذا ولّى .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى ، وذلك أنه محكيّ عن العرب : قبح الله ما قَبِل منه وما دبر . وأخرى أن أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين ، وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك ، لأنهما بمعنى واحد .
وكذلك هو القسم ب { الليل } وب { الصبح } ، فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة إلى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والأرض ، لا إله إلا هو العزيز القهار . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم : «إذ أدَبَر » بفتح الدال والباء{[11439]} ، وهي قراءة ابن عباس وابن المسيب وابن الزبير ومجاهد وعطاء ويحيى بن يعمر وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة . وقرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم ، «إذا أدْبر » بسكون الدال وبفعل رباعي ، وهي قراءة سعيد بن جبير وأبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنهم والأعرج وأبي شيخ وابن محيصن وابن سيرين ، قال يونس بن حبيب : «دبر » معناه انقضى و «أدبر » معناه تولى . وفي مصحف ابن مسعود وأبيّ بن كعب «إذ أدَبر » بفتح الدال وألف في [ إذا ]{[11440]} وبفعل رباعي وهي قراءة الحسن وأبي رزين وأبي رجاء ويحيى بن يعمر . وسأل مجاهد ابن عباس عن دبر الليل فتركه حتى إذا سمع المنادي الأول للصبح قال له : يا مجاهد ، هذا حين دبر الليل ، وقال قتادة : دبر الليل ولى . قال الشاعر [ الأصمعي ] : [ الكامل ]
وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم*** بهضاب هامدة كأمس الدابر{[11441]}
والعرب تقول في كلامها كأمس المدبر ، قال أبو علي الفارسي : فالقراءتان جميعاً حسنتان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَاللّيْل إذْ أدْبَرَ" يقول: والليل إذ ولّى ذاهبا،..
وقال آخرون في ذلك "والليل إذْ أدْبَرَ"، دبوره: إظلامه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والليل إذ أدبر} {والصبح إذا أسفر} فهذا في موضع القسم، وقد ذكرنا أن القسم لتأكيد ما قصد إليه بالذكر، وإدبار الليل مجيء النهار، فجائز أن يكون ذكر آخر الليل يقتضي ذكر أول النهار وذكر أول النهار يقتضي ذكر النهار كله. فيكون القسم بها قسما بالليل كله والنهار كله. ثم الليل إذا أقبل عملت ظلمته في ستر الأشياء كلها بساعة لطيفة، وكذلك النهار إذا أقبل عمل في رفع الظلمة عن الخلائق جملة بساعة ما لو اجتهد المرء في جميع عمره، وإن طال، في عد تلك الأشياء ليحيط علما بجملتها لم يتمكن منه. وإذا كان لليل من السلطان ما ذكرنا، ولإقبال النهار من الأمر ما ذكرنا، وكان الذي ذكرنا أمرا مشاهدا معاينا، ولو أريد معرفة ما فيه من الحكمة أنه لأي معنى ما صلح أن يكون الليل ساترا عن درك أعين الأشياء، واستقام أن يكون النهار مزيلا للستر، لم يقدر عليه، فيكون إبانة أنه لا يجب إنكار كل ما لا يوصل إلى درك الحكمة فيه بالعقول والآراء، فيكون فيه إيجاب التصديق بالأنباء التي يأتي بها الرسل، وإن كان فيها ما لا يوقف على الحكمة المجعولة فيها بالآراء. وفيه أن منشئ الليل والنهار واحد، وأن الخلائق بجملتهم تحت سلطانه وتدبيره، يحكم فيهم بما يشاء، ويفعل ما يريد.
وجائز أن يكون القسم منصرفا إلى الوقتين اللذين وقع عليهما الذكر، وهما إدبار الليل وإسفار الصبح، فيكون فيهما في الأول.
وقوله تعالى: {أسفر} أي أضاء وانتشر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وكذلك هو القسم ب {الليل} وب {الصبح}، فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة إلى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والأرض، لا إله إلا هو العزيز القهار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أي مضى، فانقلب راجعاً من حيث جاء، فانكشف ظلامه، فزال الجهل بانكشافه، وانصرفت الريب والشكوك بانصرافه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 32]
ويعقب على هذه الوقفة التقريرية لهذه الحقيقة من حقائق الغيب، ولمناهج التصور الهادية والمضللة.. يعقب على هذا بربط حقيقة الآخرة، وحقيقة سقر، وحقيقة جنود ربك، بظواهر الوجود المشهودة في هذا العالم، والتي يمر عليها البشر غافلين، وهي تشي بتقدير الإرادة الخالقة وتدبيرها، وتوحي بأن وراء هذا التقدير والتدبير قصدا وغاية، وحسابا وجزاء:
كلا والقمر. والليل إذ أدبر. والصبح إذا أسفر. إنها لأحدى الكبر. نذيرا للبشر..
ومشاهد القمر، والليل حين يدبر، والصبح حين يسفر.. مشاهد موحية بذاتها، تقول للقلب البشري أشياء كثيرة؛ وتهمس في أعماقه بأسرار كثيرة؛ وتستجيش في أغواره مشاعر كثيرة. والقرآن يلمس بهذه الإشارة السريعة مكامن هذه المشاعر والأسرار في القلوب التي يخاطبها، على خبرة بمداخلها ودروبها!
وقل أن يستيقظ قلب لمشهد القمر حين يطلع وحين يسري وحين يغيب.. ثم لا يعي عن القمر شيئا يهمس له به من أسرار هذا الوجود! وإن وقفة في نور القمر أحيانا لتغسل القلب كما لو كان يستحم بالنور!
وقل أن يستيقظ قلب لمشهد الليل عند إدباره، في تلك الهدأة التي تسبق الشروق، وعندما يبدأ هذا الوجود كله يفتح عينيه ويفيق.. ثم لا ينطبع فيه أثر من هذا المشهد وتدب في أعماقه خطرات رفافة وشفافة.
وقل أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره، ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق وتفتح وانتقال شعوري من حال إلى حال، يجعله أشد ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر.
والله الذي خلق القلب البشري يعلم أن هذه المشاهد بذاتها تصنع فيه الأعاجيب في بعض الأحايين، وكأنها تخلقه من جديد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإدبار الليل: اقتراب تقضيه عند الفجر، وإسفار الصبح: ابتداء ظهور ضوء الفجر، أي أُقسم به في هذه الحالة العجيبة الدالة على النظام المحكم المتشابه لمحو الله ظلمات الكفر بنور الإِسلام قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1].
وقد أجريت جملة {إنها لإِحدى الكبر} مجرى المثل.
ومعنى {إحدى} أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظيرة لها كما يقال: هو أحدَ الرجال، لا يراد: أنه واحد منهم، بل يراد: أنه متوحد فيهم بارز ظاهر، كما تقدم في قوله: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11].