وقوله - تعالى - : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } مؤكد لما قبله ، من أن وقوع يوم القيامة حق لا ريب فيه .
وكاذبة : صفة لموصوف محذوف ، وهى اسم فاعل بمعنى المصدر . . .
أى : عندما تقع القيامة ، لا تكذبها نفس من النفوس التى كانت تجحدها فى الدنيا ، بل كل نفس حينئذ تكون مصدقة لها .
قال القرطبى : قوله : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } الكاذبة مصدر بمعنى الكذب ، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر ، كقوله - تعالى - : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } أى : لغو . . .
أى : ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف ، بل هى واقعة يقينا . .
أو الكاذبة صفة والموصوف محذوف ، أى : ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة . . .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ . . . } وقوله - سبحانه - : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ }
و : { كاذبة } يحتمل أن يكون مصدراً كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين . فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد ولا مثنوية{[10874]} ، وهذا قول قتادة والحسن ويحتمل أن يكون صفة لمقدر ، كأنه قال : { ليس لوقعتها } حال { كاذبة } ، ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما { كاذبة } ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها فسماها { كاذبة } بهذا ، كما تقول هذه قصة كاذبة أي مكذوب فيها ، والثاني حالة كاذبة أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب .
وجملة { ليس لوقعتها كاذبة } استئناف بياني ناشىء عن قوله : { إذا وقعت الواقعة } إلخ وهو اعتراض بين جملى { إذا وقعت الواقعة } وبين جملة { فأصحاب الميمنة } [ الواقعة : 8 ] الخ .
والجواب قوله : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة } [ الواقعة : 8 ، 9 ] ، فيفد جواباً للشرط ويفيد تفصيل جملة { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] ، وتكون الفاء مستعملة في معنيين : ربطِ الجواب ، والتفريع ، وتكون جملة { ليس لوقعتها كاذبة } وما بعده اعتراضاً .
والواقعة أصلها : الحادثة التي وقعت ، أي حصلت ، يقال : وقع أمر ، أي حصل كما يقال : صِدْق الخبرِ مطابقتُه للواقع ، أي كون المعنى المفهوم منه موافقاً لمسمى ذلك المعنى في الوجود الحاصل أو المتوقع على حسب ذلك المعنى ، ومن ذلك حادثة الحرب يقال : واقعة ذي قار ، وواقعة القادسية .
فراعوا في تأنيثها معنى الحادث أو الكائنة أو الساعة ، وهو تأنيث كثير في اللغة جار على ألسنة العرب لا يكونون راعوا فيه إلا معنى الحادثة أو الساعة أو نحو ذلك ، وقريب منه قولهم : دارت عليه الدائرة ، قال تعالى : { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } [ المائدة : 52 ] وقال : { عليهم دائرةُ السَّوْء } [ التوبة : 98 ] .
والمراد بالواقعة هنا القيامة فجعل هذا الوصف علماً لها بالغلبة في اصطلاح القرآن قال تعالى : { فيومئذٍ وقعت الواقعة } [ الحاقة : 15 ] كما سميت الصاخّة والطامّة والآزفة ، أي الساعة الواقعة . وبهذا الاعتبار صار في قوله : { إذا وقعت الواقعة } محسن التجنيس .
و { الواقعة } : الموصوفةُ بالوقوع ، وهو الحدوث .
و { كاذبة } يجوز أن يكون اسم فاعل من كذب المجرد ، جرى على التأنيث للدلالة على أنه وصف لمحذوف مؤنث اللفظ . وتقديره هنا نفس ، أي تنتفي كل نفس كاذبة ، فيجوز أن يكون من كَذَب اللازم إذا قال خلاف ما في نفس الأمر وذلك أن منكري القيامة يقولون : لا تقع القيامة فيكذبون في ذلك فإذا وقعت آمنت النفوس كلها بوقوعها فلم تبق نفس تكذب ، أي في شأنها أو في الإِخبار عنها . وذلك التقدير كله مما يدل عليه المقام .
ويجوز أن يكون من كذَب المتعدي مثل الذي في قولهم كذبتْ فلاناً نفسه ، أي حدثتْه نفسه ، أيْ رَأيه بحديث كذب وذلك أن اعتقاد المنكر للبعث اعتقاد سوَّله له عقله القاصر فكأنَّ نفسه حدثته حديثاً كذَبته به ، ويقولون : كذبتْ فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا أقْدم عليه فأخفق كأنَّ نفسه لما شجعته على اقتحامه قد قالت له : إنك تطيقه فتعرَّضْ له ولا تبال به فإنك مُذَلِّلُه فإذا تبين له عجزه فكأنَّ نفسه أخبرته بما لا يكون فقد كذبته ، كما يقال : كذبته عينه إذا تخيّل مرئياً ولم يكن .
والمعنى : إذا وقعت القيامة تحقق منكروها ذلك فأقلعوا عن اعتقادهم أنها لا تقع وعلموا أنهم ضلّوا في استدلالهم وهذا وعيد بتحذير المنكرين للقيامة من خزي الخيبة وسفاهة الرأي بين أهل الحشر .
وإطلاق وصف الكذب في جميع هذا استعارة بتشبيه السبب للفعل غير المثمر بالمخبر بحديث كذب أو تشبيه التسبب بالقول قال أبو علي الفارسي : الكذب ضرب من القول فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو قول أبي النجم :
قد قالت الأنساع للبطن الحق{[409]}
جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق نحو :
بأَنْ كذَبَ القراطف والقروف{[410]}
واللام في { لوقعتها } لام التوقيت نحو { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] . وقولهم : كتبتُه لكذا من شهر كذا ، وهي بمعنى ( عند ) وأصلها لام الاختصاص شاع استعمالها في اختصاص الموقَّت بوقته كقوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] . وهو توسع في معنى الاختصاص بحيث تنوسي أصل المعنى . وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم « أي الأعمال أفضل فقال : الصلاة لوقتها » . وهذا الاستعمال غير الاستعمال الذي في قوله تعالى : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } [ الغاشية : 6 ] .