الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (2)

قوله : { إِذَا وَقَعَتِ } : فيها أوجهٌ أحدها : أنها ظرفٌ محْضٌ ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها " ليس " . والثاني : أنَّ العاملَ فيها اذْكُر مقدراً . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : بم انتصبت " إذا " ؟ قلت : بليس ، كقولك : " يومَ الجمعة ليس لي شُغْلٌ " ثم قال : " أو بإضمارِ اذكُرْ " . قال الشيخ : " ولا يقول هذا نَحْوِيٌّ ، ولا مَنْ شدا شيئاً مِنْ صناعةِ النحوِ " . قال : " لأن " لَيْسَ " مثل " ما " النافية ، فلا حَدَثَ فيها ، فكيف يعملُ في الظرف مِنْ غير حَدَثٍ ؟ وتَسْمِيتُها فِعْلاً مجازٌ . فإنَّ حَدَّ الفعل غير مُنْطَبِقٍ عليها " ، وكَثَّرَ الشيخُ عليه من هذا المعنى .

ثم قال : " وأما المثال الذي نَظَّر به فالظرف ليس معمولاً ل " ليس " بل للخبر ، وتقَدَّمَ معمولُ خبرِها عليها ، وهي مسألةُ خلاف " انتهى . قلت : الظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ . ومعنى كلامِ الزمخشريِّ : أنَّ النفي المفهومَ مِنْ " ليس " هو العاملُ في " إذا " كأنه قيل : ينفي كَذِبُ وقوعِها إذا وَقَعَتْ . ويدلُّ على ما قُلْتُه قولُ أبي البقاء : " والثاني ظرفٌ لِما دَلَّ عليه

{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ، أي : إذا وقعت لم تكذبْ " فإنْ قيل فَلْيَجُزْ ذلك في " ما " النافية أيضاً ، فالجواب : أنَّ الفعلَ أقربُ إلى الدلالةِ على الحَدَثِ من الحرفِ .

الثالث : أنَّها شرطيةٌ . وجوابُها مقدرٌ ، أي : إذا وقعَتْ كان كيتَ وكيتَ ، وهو العاملُ فيها . والرابع : أنها شرطيةٌ ، والعاملُ فيها الفعلُ الذي بعدَها ويليها ، وهو اختيارُ الشيخ ، وتبَع في ذلك مكيَّاً . قال مكي : " والعاملُ فيها " وَقَعَتْ " لأنها قد يُجازى بها ، فعَمِل فيها الفعلُ الذي بعدها كما يَعْمل في " ما " و " مَنْ " اللتَيْن للشرط في قولك : ما تفعَلُ أفعَلْ ، ومَنْ تُكرِمْ أُكْرِمْ " ، ثم ذكر كلاماً كثيراً . الخامس : أنها مبتدأٌ ، و " إذا رُجَّتْ " خبرُها ، وهذا على قولِنا : إنها تَتَصرَّفُ ، وقد مَضَى القولُ فيه مُحرَّراً ، إلاَّ أن هذا الوجهَ إنما جَوَّزه الشيخُ ، جمالُ الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءةِ مَنْ نصب " خافضةً رافعةً " على الحالِ . وحكاه بعضُهم عن الأخفش ، ولا أدري اختصاص ذلك يوجه النصب .

السادس : أنه ظرفٌ ل " خافضة " أو " رافعة " ، قاله أبو البقاء ، أي : إذا وَقَعَتْ خَفَضَتْ ورفعَتْ . السابع : أَنْ يكونَ ظرفاً ل " رُجَّتْ " " وإذا " الثانيةُ على هذا إمَّا بدلٌ من الأولى أو تكريرٌ لها . الثامن : أنَّ العاملَ فيه ما دلَّ عليه قوله : { فأصحابُ المَيْمَنَةِ } ، أي : إذا وَقَعَتْ باتَتْ أحوالُ الناسِ فيها .

التاسع : أنَّ جوابَ الشرطِ قولُه : { فأصحابُ المَيْمنةِ } إلى آخره .

و " لِوَقْعَتِها " خبرٌ مقدمٌ و " كاذبة " اسم مؤخرٌ . و " كاذبة " يجوزُ أَنْ يكونَ اسم فاعل وهو الظاهرُ ، وهو صفةٌ لمحذوف ، فقَدَّره الزمخشريُّ : " نفسٌ كاذبةٌ ، أي : إنه ذلك اليومَ لا يَكْذِبُ على الله أحدٌ ، ولا يُكَذِّبُ بيوم القيامةِ أحد " ثم قال : " واللامُ مثلُها في قولِه { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] إذ ليس لها نفسُ تُكَذِّبها وتقول : لم تكوني كما لها نفوسٌ كثيرةٌ يُكّذِّبْنَها اليومَ يَقُلْنَ لها : لم تكوني ، أو هو مِنْ قولهم : كَذَّبَتْ فلاناً نفسُه في الخطر العظيم إذا شَجَّعَتْهُ على مباشرته وقالَتْ له : إنَّك تُطيقه وما فوقه فَتَعَرَّضْ له ، ولا تبال به على معنى أنها وقعةٌ لا تُطاقُ شدةً وفظاعةً ، وأنْ لا نفس حينئذٍ تُحدِّث صاحبَها بما تُحَدِّثه به عند عظائمِ الأمورِ ، وتزيِّن له احتمالها وإطاقتها ؛ لأنهم يومئذٍ أضعفُ مِنْ ذلكَ وأَذلُّ . ألا ترى إلى قولِه تعالى { كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } [ القارعة : 4 ] والفَراشُ مَثَلٌ في الضعف " .

وقَدَّره ابن عطية : " حالٌ كاذبةٌ " قال : " وَيْحتمل الكلامُ على هذا معنيين ، أحدهما : كاذبة ، أي : مكذوبة فيما أَخْبر به عنها فسَمَّاها كاذبةً لهذا ، كما تقول : هذه قصةٌ كاذبةٌ ، أي : مكذوبٌ فيها . والثاني : أي :/ لا يَمْضي وقوعُها كقولك : فلانٌ إذا حَلَّ لم يكذِبْ . والثاني : أن كاذبة مصدرٌ بمعنى التكذيب نحو : خائنة الأعين . قال الزمخشري : " مِنْ قولِك حَمَلَ فلانٌ على قرْنِه فما كَذَبَ ، أي : فما جَبُنَ ولا تَثَبَّط . وحقيقتهُ فما كَذَّب نفسَه فيما حَدَّثَتْه به من إطاقتِه له وإقدامهِ عليه وأنشد لزهير :

لَيْثٌ بعَثَّرَ يَصْطادُ الرجالُ إذا *** ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقا

أي : إذا وَقَعَتْ لم يكن لها رَجْعَةٌ ولا ارْتدادٌ " ، انتهى . وهو كلامٌ حسنٌ جداً .

ثم لك في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ : إمَّا لأنَّها ابتدائيةٌ ولا سيما على رَأْيِ الزمخشري ، حيث جَعَلَ الظرفَ مُتَعَلِّقاً بها وإمَّا لأنَّها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابِه المحذوف . والثاني : أنَّ مَحَلَّها النصبُ على الحال ، قاله ابن عطية ، ولم يُبَيِّن صاحب الحال ماذا ؟ وهو واضحٌ إذا لم يكُنْ هنا إلاَّ الواقعةُ ، وقد صَرَّحَ أبو الفضل بذلك .

وقرأ العامَّةُ برفعِ " خافضةٌ رافعةٌ " على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : هي خافضةٌ قوماً إلى النار ورافعةٌ آخرين إلى الجنةِ ، فالمفعولُ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى ، أو يكونُ المعنى : أنَّها ذاتُ خَفْضٍ ورَفْعٍ كقوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ آل عمران : 156 ] { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } [ البقرة : 187 ] وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصِبها على الحالِ ، ويُروى عن الكسائيِّ أنه قال : " لولا أنَّ اليزيديَّ سَبَقني إليه لقَرَأْتُ به " انتهى . ولا أظنُّ مثلَ هذا يَصِحُّ عن مثل هذا .

واخْتُلف في ذي الحال ، فقال أبو البقاء : " من الضمير في " كاذبة " أو في " وَقَعَتْ " ، وإصلاحُه أن يقولَ : أو فاعل " وقعَتْ " إذ لا ضميرَ في " وقعَتْ " . وقال ابن عطية وأبو الفضل مِنْ " الواقعة " ، ثم قَرَّرا مجيءَ الحالِ متعددةً من ذي حالٍ واحدةٍ كما تجيءُ الأخبارُ متعددةً . وقد بَيَّنْتُ لك هذا فيما تقدَّم فاستغْنَيْت عن كلامِهما . قال أبو الفضل : " وإذا جُعِلَتْ هذه كلُّها أحوالاً كان العامل في " إذا وَقَعَتْ " محذوفاً يَدُلُّ عليه الفحوى ، أي : إذا وقعتْ يُحاسَبون .