5- الشمس والقمر يجريان في بروجهما بحساب وتقدير لا إخلال فيه{[211]} .
قوله تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } قال مجاهد : كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحى . قال غيره : أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ، قاله ابن عباس وقتادة . وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما تحسب الأوقات والآجال لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً . وقال الضحاك : يجريان بقدر ، والحسبان يكون مصدر حسبت حساباً وحسباناً ، مثل الغفران والكفران ، والرجحان والنقصان ، وقد يكون جمع الحساب كالشهبان والركبان .
وقوله - تعالى - : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } بيان لنعمة رابعة من نعمه - تعالى - التى لا تحصى .
والحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون ، والمراد بحساب دقيق ، وتقدير حكيم ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف . . . أى : الشمس والقمر يجريان فى هذا الكون ، بحساب دقيق فى بروجهما ومنازلهما ، بحيث لا يشوب جريهما اختلال أو اضطراب ، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام ، ويعرفون أشهر الحج والصوم ، وغير ذلك من شئون الحياة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام :
حيث تتجلى دقة التقدير ، في تنسيق التكوين والحركة ، بما يملأ القلب روعة ودهشة ، وشعورا بضخامة هذه الإشارة ، وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار .
إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام . فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدودا ، ملايين الملايين من النجوم ، منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءا . فالشعرى اليمانية أثقل من الشمسبعشرين مرة ، ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس . والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس ونوره ثمانية آلاف ضعف . وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة . . . وهكذا . . .
ولكن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا - نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير ، الذي يعيش هو وسكانه جميعا على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها .
وكذلك القمر وهو تابع صغير للأرض . ولكنه ذو أثر قوي في حياتها . وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمد في البحار .
وحجم الشمس ، ودرجة حرارتها ، وبعدها عنا ، وسيرها في فلكها . وكذلك حجم القمر وبعده ودورته . . كلها محسوبة حسابا كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض . وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى . .
ونتناول طرفا من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء . .
إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال . ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد في الفضاء ! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة ! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها . وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا . ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية ، وذهبت بددا !
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض . فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها . وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة !
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها ، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب ، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار . ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين !
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة ، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة .
الشمس والقمر بحسبان يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب والنجم والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له والشجر لذي له ساق يسجدان ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجد من المكلفين طوعا وكان حق النظم في الجملتين أن يقال وأجرى الشمس والقمر وأسجد النجم والشجر أو الشمس والقمر بحسبان .
جملة هي خبر رابع عن الرحمن وإلاّ كان ذِكره هنا بدون مناسبة فينقلب اعتراضاً . ورابط الجملة بالمبتدأ تقديره : بحسبانه ، أي حسبان الرحمن وضبطه .
وهذا استدلال على التفرد بخلق كوكب الشمس وكرة القمر وامتنان بما أودع فيهما من منافع للناس ، ونظام سيرهما الذي به تدقيق نظام معاملات الناس واستعدادهم لما يحتاجون إليه عند تغيرات أجْوَائِهم وأرزاقهم . ويتضمن الامتنان بما في ذلك من منافعهم . وفي كون هذا الخبر جارياً على أسلوب التعديد ما قد علمت آنفاً من التبكيت ، ووجهه أنهم غفلوا عما في نظام الشمس والقمر من الحكمة وما يَدل عليه ذلك النظام من تفرد الله بتقديره ، فاشتغل بعضهم بعبادة الشمس وبعضهم بعبادة القمر كما قال تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } [ فصلت : 37 ] .
وجيء بهذه الجملة اسمية للتهويل بالابتداء باسم الشمس والقمر ، وللدلالة على أن حسبانهما ثابت لا يتغير منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق . واستغني بجعل اسم الشمس والقمر مسنداً إليهما عن تفكيك المسند إلى مسندين : أحدهما : يدل على الاستدلال ، والآخر يدل على الامتنان ، كما وقع في قوله : { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] .
والحُسبان : مصدر حسَب بمعنى عد مثل الغفران .
والباء للملابسة وهي ظرف مستقر هو خبر عن الشمس والقمر ، والتقدير : كائنان بحسبان ، أي بملابسة حسبان ، أي لحساب الناس مواقع سيرهما .
وإسناد هذه الملابسة إلى الشمس والقمر مجازي عقلي لأن الشمس والقمر سبب لتلبس الناس بحسابهما كما تقول : أنتَ بعنايةٍ مني ، جعلت عنايتك ملابسة للمخاطب ملابسةً اعتبارية ، وقوله تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] ، وقد تقدم في قوله تعالى : { والشمس والقمر حسباناً } في سورة الأنعام ( 96 ) . والحُسبان كناية عن انتظام سيرهما انتظاماً مطرداً لا يختل حساب الناس له والتوقيت به .
واقتصر على ذكر الشمس والقمر دون بقية الكواكب وإن كان فيها حسبان الأنواء ، والحَرّ والبرد ، مثللِ الجوزاء ، والشِعرى ، ومنزلة الأسد ، والثريا ، لأن هذين الكوكبين هما الباديان لجميع الناس لا يحتاج تعقل أحوالهما إلى تعليم توقيت مثل الكواكب الأخرى .
ولأن السورة هذه بنيت على ذكر الأمور المزدوجة والشمس والقمر مزدوجان في معارف عموم الناس فالشمس : كوكب سماوي لأنه أعلى من الأرض والأرض تدور حوله وداخلة في النظام الشمسي . والقمر : كوكب أرضي لأنه دون الأرض وتابع لها كبقية أقمار الكواكب فذكر الشمس والقمر كذكر السماء ، والأرض ، والمشرق ، والمغرب ، والبحرين .