قوله تعالى : { والذي أطمع } أرجو { أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } أي : خطايا يوم الحساب . قال مجاهد : هو قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله لسارة : هذه أختي ، وزاد الحسن وقوله للكواكب : هذا ربي .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : " قلت يا رسول الله : ابن جدعان ، كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المساكين ، فهل ذاك نافعه ؟ قال : لا ينفعه إنه لم يقل يوماً ، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " . وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه ، وإخبار أنه لا يصلح الإلهية إلا لمن يفعل هذه الأفعال .
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } فليضروني بأدنى شيء من الضرر ، وليكيدوني ، فلا يقدرون .
{ إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } هو المنفرد بنعمة الخلق ، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية .
ثم خصص منها بعض الضروريات فقال : { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فهذا هو وحده المنفرد بذلك ، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة ، وتترك هذه الأصنام ، التي لا تخلق ، ولا تهدي ، ولا تمرض ، ولا تشفي ، ولا تطعم ولا تسقي ، ولا تميت ، ولا تحيي ، ولا تنفع عابديها ، بكشف الكروب ، ولا مغفرة الذنوب .
فهذا دليل قاطع ، وحجة باهرة ، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها ، فدل على اشتراككم في الضلال ، وترككم طريق الهدى والرشد . قال الله تعالى : { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } الآيات .
{ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } أي : وهو وحده الذى أطمع أن يغفر لى ذنوبى يوم ألقاه لأنه لا يقدر على ذلك أحد سواه - عز وجل - .
وفى هذه الآية أسمى درجات الأدب من إبراهيم مع ربه - سبحانه - ، لأنه يوجه طمعه فى المغفرة إليه وحده ، ويستعظم - عليه السلام - ما صدر منه من أمور قد تكون خلاف الأولى ، ويعتبرها خطايا ، هضما لنفسه ، وتعليما للأمة أن تجتنب المعاصى ، وأن تكون منها على حذر وأن تفوض رجاءها إلى الله - تعالى - وحده .
( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) . . فأقصى ما يطمع فيه إبراهيم - عليه السلام - النبي الرسول ، الذي يعرف ربه هذه المعرفة ، ويشعر بربه هذا الشعور ، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى . . أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين . فهو لا يبرىء نفسه ، وهو يخشى أن تكون له خطيئة ، وهو لا يعتمد على عمله ، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئا ، إلا أنه يطمع في فضل ربه ، ويرجو في رحمته ، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة .
إنه شعور التقوى ، وشعور الأدب ، وشعور التحرج ؛ وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة ، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل .
وهكذا يجمع إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة : توحيد الله رب العالمين . والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شؤون حياتهم على الأرض . والبعث والحساب بعد الموت وفضل الله وتقصير العبد . وهي العناصر التي ينكرها قومه ، وينكرها المشركون .
{ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } ذكر ذلك هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر ، وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفارا لما عسى يندر منه من الصغائر ، وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث : { إني سقيم }{ بل فعله كبيرهم هذا } ، وقوله " هي أختي " ، ضعيف لأنها معاريض وليس خطايا .
وأوقف عليه السلام نفسه على الطمع في المغفرة وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته ، وقوله { خطيئتي } ، ذهب فيه أكثر المفسرين إلى أنه أراد كذباته الثلاث ، قوله هي أختي في شأن سارة ، وقوله { إني سقيم }{[2]} [ الصافات : 89 ] ، وقوله { بل فعله كبيرهم هذا }{[3]} [ الأنبياء : 63 ] ، وقالت فرقة أراد ب » الخطيئة «اسم الجنس فدعا في كل أمره من غير تعيين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أظهر عندي لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعارض ، وهي وإن كانت كذبات بحكم قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات{[4]} ، وبحكم ما في حديث الشفاعة من قوله في شأن إبراهيم نفسي نفسي ، وذكر كذباته{[5]}- فهي في مصالح وعون شرع وحق ، وقرأ الجمهور » خطيئتي «بالإفراد ، وقرأ الحسن » خطاياي «بالجمع .
الخطيئة : الذنب . يقال : خَطِىء إذا أذنب . وتقدم في قوله تعالى : { نغفر لكم خطاياكم } في البقرة ( 58 ) . والمقصود في لسان الشرائع : مخالفة ما أمر به الشرع . وإذ قد كان إبراهيم حينئذ نبيئاً والأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها فالخطيئة منهم هي مخالفة مقتضى المقام النبوي .
والمغفرة : العفو عن الخطايا ، وإنما قيده بيوم الدين } لأنه اليوم الذي يظهر فيه أثر العفو ، فأما صدور العفو من الله لِمثل إبراهيم عليه السلام ففي الدنيا ، وقد يغفر خطايا بعض الخاطئين يوم القيامة بعد الشفاعة .
ويوم الدين : هو يوم الجزاء ، وهذا الكلام خبر يتضمن تعريضاً بالدعاء . وقد أشار في هذه النعوت إلى ما هو من تصرفات الله في العالم الحِسي بحيث لا يخفى عن أحد قصداً لاقتصاص إيمان المشركين إن راموا الاهتداء .
وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخَلْق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخَلْق إلى الخَلْق الثاني وهو البعث ، فذكر خَلق الجسد وخَلق العقل وإعطاءَ ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء ، وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه ، وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى ، وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمةً .
وحذفت ياآت المتكلم من { يهدين ، ويسقين ، ويشفين ، ويحيين } لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها ، وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة ، وقد تقدم ذلك في قوله : { فأخاف أن يقتلون } [ الشعراء : 14 ] في قصة موسى المتقدمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذي أطمع} يعني: أرجو {أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} يعنى يوم الحساب، يقول: أنا أعبد الذي يفعل هذا بي ولا أعبد غيره، وخطيئة إبراهيم ثلاث كذبات، حين قال عن سارة: هذه أختي، وحين قال: إني سقيم، وحين قال: بل فعله كبيرهم هذا، إحداهن لنفسه، واثنتان لله، عز وجل ربه تعالى ذكره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَالّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ" فرّبي هذا الذي بيده نفعي وضرّي، وله القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دُعي، ولا ينفع ولا يضرّ. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه، في أنه لا تصلح الألوهة، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرّا. وقيل: إن إبراهيم صلوات الله عليه، عني بقوله: "وَالّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ": والذي أرجو أن يغفر لي قولي: "إنّي سَقِيمٌ"، وقولي: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا"، وقولي لسارة: إنها أختي.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي يوم الجزاء وهذا انقطاع منه (عليه السلام) إلى الله دون أن يكون له خطيئة يحتاج أن تغفر له يوم القيامة... وقيل: إن ذلك خرج مخرج التلطف في الدعاء بذكر ما يتيقن أنه كائن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر؛ لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله: {إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] وقوله لسارّة: هي أختي. وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار.
فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: {أَطْمَعُ} ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفاً لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم.
فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذٍ، وهو الآن خفي لا يعلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأوقف عليه السلام نفسه على الطمع في المغفرة وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته، وقوله {خطيئتي}، ذهب فيه أكثر المفسرين إلى أنه أراد كذباته الثلاث، قوله هي أختي في شأن سارة، وقوله {إني سقيم} [الصافات: 89]، وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63]، وقالت فرقة أراد ب» الخطيئة «اسم الجنس فدعا في كل أمره من غير تعيين.
وهذا أظهر عندي لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعارض، وهي وإن كانت كذبات بحكم قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، وبحكم ما في حديث الشفاعة من قوله في شأن إبراهيم نفسي نفسي، وذكر كذباته -فهي في مصالح وعون شرع وحق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر البعث، ذكر ما يترتب عليه فقال: {والذي أطمع} هضماً لنفسه واطراحاً لأعماله وإشارة إلى أنه بالنسبة إلى الحضرة الأعظمية غير قادرة لها حق قدرها، فإن الطمع كما قال الحرالي في البقرة تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب -انتهى. فلذلك لم يعد له عملاً {أن يغفر} أي يمحو ويستر.
ولما كان الله سبحانه منزهاً عن الغرض، فكانت المغفرة لحظ العبد ليس غير، قال: {لي} وأسند الخطيئة إليه هضماً لنفسه وتواضعاً لربه فقال: {خطيئتي} أي تقصيري عن أن أقدره حق قدره، فإن الضعيف العاجز لا يبلغ كل ما ينبغي من خدمة العلي الكبير، وما فعله فهو بإقداره سبحانه فلا صنع له في الحقيقة أصلاً {يوم الدين} أي الجزاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين).. فأقصى ما يطمع فيه إبراهيم -عليه السلام- النبي الرسول، الذي يعرف ربه هذه المعرفة، ويشعر بربه هذا الشعور، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى.. أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين. فهو لا يبرىء نفسه، وهو يخشى أن تكون له خطيئة، وهو لا يعتمد على عمله، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئا، إلا أنه يطمع في فضل ربه، ويرجو في رحمته، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة.
إنه شعور التقوى، وشعور الأدب، وشعور التحرج؛ وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل.
وهكذا يجمع إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة: توحيد الله رب العالمين. والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شؤون حياتهم على الأرض. والبعث والحساب بعد الموت وفضل الله وتقصير العبد. وهي العناصر التي ينكرها قومه، وينكرها المشركون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطيئة: الذنب. يقال: خَطِىء إذا أذنب. وتقدم في قوله تعالى: {نغفر لكم خطاياكم} في البقرة (58). والمقصود في لسان الشرائع: مخالفة ما أمر به الشرع. وإذ قد كان إبراهيم حينئذ نبيئاً والأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها فالخطيئة منهم هي مخالفة مقتضى المقام النبوي. والمغفرة: العفو عن الخطايا، وإنما قيده بيوم الدين} لأنه اليوم الذي يظهر فيه أثر العفو، فأما صدور العفو من الله لِمثل إبراهيم عليه السلام ففي الدنيا، وقد يغفر خطايا بعض الخاطئين يوم القيامة بعد الشفاعة. ويوم الدين: هو يوم الجزاء، وهذا الكلام خبر يتضمن تعريضاً بالدعاء. وقد أشار في هذه النعوت إلى ما هو من تصرفات الله في العالم الحِسي بحيث لا يخفى عن أحد قصداً لاقتصاص إيمان المشركين إن راموا الاهتداء. وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخَلْق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخَلْق إلى الخَلْق الثاني وهو البعث، فذكر خَلق الجسد وخَلق العقل وإعطاءَ ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء، وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه، وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى، وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمةً.
وحذفت ياآت المتكلم من {يهدين، ويسقين، ويشفين، ويحيين} لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها، وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة، وقد تقدم ذلك في قوله: {فأخاف أن يقتلون} [الشعراء: 14] في قصة موسى المتقدمة.