اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِيٓ أَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لِي خَطِيٓـَٔتِي يَوۡمَ ٱلدِّينِ} (82)

قوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } قرأ العامة : «خَطِيئَتِي » بالإفراد . والحسن : «خَطَايَايَ »{[37364]} جمع تكسير . فإن قيل : لم قال : «والَّذِي أَطْمَعُ » والطمع عبارة عن الظن والرجاء ، وهو عليه السلام{[37365]} كان قاطعاً بذلك ؟ فالجواب : هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة ، حيث قالوا : لا يجب على الله لأحد شيء ، وأن يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله .

وأجاب الجبائي عنه من وجهين :

الأول : أن قوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي } أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به .

والثاني : المراد{[37366]} من الطمع : اليقين ، وهو المروي عن الحسن{[37367]} .

وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً لأمته كيفية الدعاء{[37368]} .

قال ابن الخطيب : وهذه وجوه ضعيفة ، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أولاً والمدح ثانياً ، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم - عليه السلام{[37369]} - فجعل الشيء الواحد وهو كقوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خطيئتي يَوْمَ الدين } كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده .

وأما قوله : إن الطمع هو اليقين ( فهذا ){[37370]} على خلاف اللغة .

وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضاً{[37371]} ، لأن{[37372]} حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة ، وإنه باطل أيضاً{[37373]} . فإن قيل : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا ؟ فالجواب{[37374]} من وجوه :

أحدها : قال مجاهد : هي قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة : «هذه أختي »{[37375]} وزاد الحسن قوله للكوكب : { هذا رَبِّي }{[37376]} [ الأنعام : 76 ] .

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز{[37377]} .

وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس .

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال ، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، وهو منزه عن المعصية{[37378]} .

وقال : وثالثها ، وهو الجواب الصحيح : أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى ذلك خطأ ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن{[37379]} يبيعها بألف ألف دينار ، فباعها بدينار ، وقيل : إنه أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز{[37380]} .

فإن قيل : ما فائدة قوله : «يَغْفِرَ لِي » ؟ .

فالجواب من وجوه : الأول : أن الأب إذا عفا عن ولده ، والسيد عن عبده ، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلباً للثواب ، أو لحسن الثناء والمحمدة ، أو{[37381]} دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه ، إما لتحصيل ما ينبغي ، أو لدفع ما لا ينبغي ، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن ، أو يزول عنه نقصان كان ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه .

فقوله : «يَغْفِر لِي » معناه : أن غفرانه لي ولأجلي ، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة{[37382]} .

وثانيها : كأنه قال : خلقتني لا لي ، فإنك حين خلقتني لم أكن موجوداً ، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي{[37383]} ، فلما خلقتني أولاً مع أني ما كنت{[37384]} محتاجاً إلى ذلك الخلق ، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد{[37385]} الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى .

وثالثها : أن إبراهيم - عليه السلام{[37386]} - كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط ، ولذلك{[37387]} لما قال له جبريل : «ألك حاجة ؟ » قال : «أما إليك فلا » فهاهنا قال : { أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي } أي : بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي ، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع{[37388]} ، فإن قيل{[37389]} : لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا ؟ .

فالجواب : لأن أثرها يظهر يوم الدين ، وهو الآن خفي لا يعلم{[37390]} .


[37364]:المختصر (107)، تفسير ابن عطية 11/125، البحر المحيط 7/25، الإتحاف (333).
[37365]:في : عليه الصلاة والسلام.
[37366]:في ب: أن المراد.
[37367]:انظر الفخر الرازي 24/145.
[37368]:انظر الكشاف 3/118، الفخر الرازي 24/145.
[37369]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[37370]:فهذا: تكملة من الفخر الرازي.
[37371]:أيضاً: سقط من ب.
[37372]:في ب: لأنه. وهو تحريف.
[37373]:الفخر الرازي 24/145-146.
[37374]:في ب: والجواب.
[37375]:انظر الفخر الرازي 24/146، القرطبي 13/112.
[37376]:[الأنعام: 76]، (77، 78). وانظر القرطبي 13/112.
[37377]:الفخر الرازي 24/146.
[37378]:المرجع السابق.
[37379]:في الأصل: بأن.
[37380]:الفخر الرازي 24/146.
[37381]:في ب: و.
[37382]:في ب: البتة إليه.
[37383]:في ب: لأجل.
[37384]:في الفخر الرازي : مع أني كنت.
[37385]:في ب: شدة.
[37386]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[37387]:في ب: وكذلك. وهو تحريف.
[37388]:انظر الفخر الرازي 24/146.
[37389]:في الأصل: علق. وهو تحريف.
[37390]:انظر الكشاف 3/118، والفخر الرازي 24/146.