قوله عز وجل : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } الآيات .
روى سفيان بن سعيد الثوري عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر ، وكان الله ملكه سبعمائة سنة ، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس ، فحاصرها وفتحها ، وقتل على دم يحيى بن زكريا عليه السلام سبعين ألفاً ، ثم سبى أهلها والأبناء ، وسلب حلي بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفاً ومائة ألف عجلة من حلي ، قلت : يا رسول الله كان بيت المقدس عظيماً ؟ قال : أجل بناه سليمان بن داود من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ، وكان عمده ذهباً ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين ، يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار بها بختنصر حتى نزل بابل فأقام بنو إسرائيل في يده مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورش ، وكان مؤمناً ، أن يسير إليهم ليستنقذ بقايا بني إسرائيل ، فسار كورش لبني إسرائيل وأخذ حلي بيت المقدس حتى ردها إليه ، فأقام بنو إسرائيل بها مطيعين لله تعالى مائة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكاً يقال له أنطيانوس فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم : يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم ثانياً بالسبي ، فعادوا ، فسلط الله عليهم ملك رومية يقال له فافس بن استيانوس ، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبى حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من صفة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس هو ألف وسبعمائة سفينة يرمي بها على بابها حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين " . قال محمد بن إسحاق : كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزاً عنهم محسنا ً إليهم ، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم ، كما أخبر على لسان موسى عليه السلام ، أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبياً يسدده ويرشده ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها . فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعياء بن أصفيا . وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ، وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام ، فقال : أبشري أورستم ، الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زماناً طويلا ، فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنجاريب ملك بابل ، معه ستمائة ألف راية ، فأقبل سائراً حتى نزل حول بيت المقدس ، والملك مريض ، في ساقه قرحة ، فجاء النبي شعياء وقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنجاريب ملك بابل قد نزل بك ، هو وجنوده بستمائة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرقوا ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتني وحي ، فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ويستخلف - على ملكه من يشاء من أهل بيته - فأتى شعياء ملك بني إسرائيل صديقة فقال له : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك ، فإنك ميت ، فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة فصلى ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي وتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب ، وإله الآلهة ، يا قدوس المتقدس يا رحمن ، يا رحيم ، يا رؤوف ، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل ، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني ، سري وعلانيتي لك وأنت الرحمن . فاستجاب له وكان عبداً صالحاً ، فأوحى الله تعالى إلى شعياء أن يخبر صديقه أن ربه قد استجاب له ورحمه ، وأخر له أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوه سنجاريب ، فأتاه شعياء فأخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن ، وخر ساجداً ، وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبحت ، وكبرت ، وعظمت ، أنت الذي تعطي الملك لمن تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين ، وأنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي . فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبداً من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ، يصبح وقد برأ ، ففعل وشفي . وقال الملك لشعياء : سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا . قال الله لشعياء : قل له : إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنجاريب وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر . فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة ، يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك ، فاخرج فإن سنجاريب ومن معه قد هلكوا ، فلما خرج الملك التمس سنجاريب فلم يوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم إلى ملك بني إسرائيل ، فلما رآهم خر ساجداً من حين طلعت الشمس إلى العصر ، ثم قال لسنجاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون ؟ . فقال سنجاريب له : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشداً ، ولم يلقني في الشقوة إلا ذلة في الدنيا وعذاب في الآخرة ، فلو سمعت أو عقلت ما غزوتكم . فقال صديقه : الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء ، وإن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة ، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذروا من بعدكم ، ولولا ذلك لقتلكم ولدمك ولدم من معك أهون على الله من دم قراد ، لو قتلت . ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع فطاف بهم سبعين يوماً حول بيت المقدس وإيليا ، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنجاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما تفعل بنا . فأمر بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء عليه السلام : أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنجاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم ، فبلغ شعياء الملك ذلك ففعل الملك صديقه ما أمر به . فخرج سنجاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، وكان أمر سنجاريب تخويفاً لهم ثم كفاهم الله ، تذكرة وعبرة . ثم لبث سنجاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات واستخلف بختنصر ، ابن ابنه ، على ما كان عليه جده يعمل عمله ، فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقه ، فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضاً ، ونبيهم شعياء معهم ولا يقبلون منه ، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء قم في قومك أوحي على لسانك ، فلما قام النبي شعياء أنطق الله لسانه بالوحي ، فقال : يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطنعهم لنفسه ، وخصهم بكرامته ، وفضلهم على عباده ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها ، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها ، فقتل بعضها بعضاً ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الآمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الخير أن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأري الذي شبع عليه فيراجعه ، وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وأن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير وأني ضارب لهم مثلاً فليسمعوه ، قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواءً زماناً ، خراباً ، مواتاً ، لا عمران فيها ، وكان لها رب حكيم ، فأحاط عليها جداراً ، وشيد فيها قصوراً ، وأنبط نهراً ، وصنف فيها غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظاً قوياً أميناً ، فلما أطلعت جاء طلعها خروباً ؟ قالوا بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً لا عمران فيها ، قال الله : قال لهم : فإن الجدار ديني ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القيم نبيي ، وإن الغراس هم ، وإن الحروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيث ، وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مثل ضربته لهم ، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا آكله ، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها ، ويزوقون إلي المساجد ، ويزينونها ، ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ؟ وأي حاجة لي إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ؟ إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها . يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم يزك صدقتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا مثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا . قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ويتقوون عليه بطعمة الحرام ؟ أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي ؟ أم كيف تزكى عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم ؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين ؟ أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم ، والفعل من ذلك بعيد ، إنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع قول المستعفف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين . يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي : إنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا ، وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاءً أثبته وحتمته على نفسي ، وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً لا بد أنه واقع ، فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه ؟ أو في أي زمان يكون ؟ وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاؤون ، فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاؤون فليقولوا مثل الحكمة التي بها أدبر أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء ، وأن أجعل الملك في الرعاء ، والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والعلم في الجهالة ، والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم به ، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون ، فإني باعث لذلك نبياً أمياً أميناً ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته والهدى والقرآن إمامه ، والإسلام ملته وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة ، وأشهر به بعد النكره وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين قلوب مختلفة ، وأهواء متشتة وأمم متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، توحيداً إلي وإيماناً وإخلاصاً لي يصلون قياماً وقعوداً وركعاً وسجوداً ، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومناقبهم ومثواهم ، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف يعقدون لي الثياب على الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم " . فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم ، فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها ، فأدركه الشيطان ، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها ، واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص ، وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبياً ، وكان من سبط هارون بن عمران . وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء ، سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء . فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم ، فأوحى الله إلى أرمياء أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي وعرفهم بأحداثهم ، فقال أرمياء : يا رب إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخذول إن لم تنصرني ، قال الله تعالى : أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن القلوب والألسنة بيدي أقلبها كيف شئت ، إني معك ولن يصل إليك شيء معي ، فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة ، بين فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وقال في آخرها عن الله تعالى : وإني حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ولأسلطن عليهم جباراً قاسياً ألبسه الهيبة ، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ، ثم أوحى الله إلى أرمياء : إني مهلك بني إسرائيل بيافث ، ويافث من أهل بابل - على ما ذكرنا في سورة البقرة - فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ، ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب بيت المقدس ، وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً ثم يقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا ذلك حتى ملؤوه ، ثم أمرهم أن يجمعوا من في بلدان بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمها فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ، فثلثاً أقر بالشام ، وثلثاً سبي ، وثلثاً قتل ، وذهب بناشئة بيت المقدس وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بظلمهم ، فذلك قوله تعالى : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد } يعني : بختنصر وأصحابه . ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله ثم رأى رؤيا أعجبته ، إذ رأى شيئاً أصابه فأنساه الله الذي رأى ، فدعاه دانيال وحنانيا وعزازيا و ميشائيل ، وكانوا من ذراري الأنبياء وسألهم عنها قالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها ، قال : ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم ، فخرجوا من عنده فدعوا الله وتضرعوا إليه ، فأعلمهم بالذي سألهم عنه ، فجاؤوه وقالوا : رأيت تمثالاً قدماه وساقاه من فخار ، وركبتاه وفخذاه من نحاس ، وبطنه من فضة ، وصدره من ذهب ، ورأسه وعنقه من حديد ، قال : صدقتم ، قالوا : فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله تعالى صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها ، قال : صدقتم ، قال : فما تأويلها ؟ قالوا تأويلها أنك رأيت ملك الملوك ، فبعضهم كان ألين ملكاً وبعضهم كان أحسن ملكاً وبعضهم كان أشد ملكاً ، الفخار أضعفه ، ثم فوقه النحاس أشد منه ، ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل ، والذهب أحسن من الفضة وأفضل ، ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما كان قبله ، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته نبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه . ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر : أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت ، فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا ، لقد رأينا نساءنا انصرفت عنا وجوههن إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم ، قال شأنكم بهم ، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل . فلما قربوهم للقتل بكوا إلى الله تعالى وقالوا : يا رب أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعد الله أن يجيبهم ، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزازيا وميشائيل . ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل : أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلت منهم ؟ وما هذا البيت ؟ قالوا : هذا بيت الله ، وهؤلاء أهله ، كانوا من ذراري الأنبياء ، فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم ، وكان ربهم ، رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم ، يكرمهم ويعزهم ، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم ، فاستكبر وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل . قال : فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا فأقتل من فيها وأتخذها ملكاً لي فإني قد فرغت من الأرض ، قالوا : ما يقدر عليها أحد من الخلائق ، قال : لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم ، فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عليه بقدرته بعوضة فدخلت منخره حتى عضت بأم دماغه ، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه ، فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ليري الله العباد قدرته ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يديه ، فردوهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه . ويزعمون : أن الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ، ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله تعالى وكانت التوراة قد احترقت ، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره ، وقد خرج من الناس ، فهو كذلك إذ أقبل إليه رجل فقال يا عزير مايبكيك ؟ قال أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا ، الذي لا يصلح أمر دنيانا وآخرتنا غيره ، قال : أفتحب أن يرد إليك ؟ ارجع فصم وتطهر ، وطهر ثيابك ، ثم موعدك هذا المكان غداً ، فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ، ثم عمد إلى المكان الذي وعده فجلس فيه ، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء ، وكان ملكاً بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء ، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة فأحبوه حتى لم يحبوا حبه شيئاً قط ، ثم قبضه الله وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل ، ففريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى ، وكانوا من بيت آل داود ، فمات زكريا ، وقيل قتل زكريا ، فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم ، وقتلوا يحيى ، بعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش ، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيور زاذان صاحب القتل ، فقال : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلا أني لا أجد أحداً أقتله ، فأمره أن يقتلهم حتى بلغ ذلك منهم بيور زاذان ، ودخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم فوجد دماً يغلي فسألهم ، فقال : يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي ؟ أخبروني خبره ، قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ، ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فيقبل منا إلا هذا ، فقال : ما صدقتموني ، فقالوا : لو كان كأول زماننا لتقبل منا ، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا ، فذبح منهم بيور زاذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين زوجاً من رؤوسهم ، فلم يهدأ ، فأمر فأتي بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد ، فلما رأى بيور زاذان الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني ، واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته ، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر ، فقالوا : إن هذا الدم دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أنا أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه ، فقتلناه فهذا دمه ، فقال لهم بيور زاذان : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال الآن صدقتموني ، لمثل هذا انتقم ربكم منكم . فلما رأى بيور زاذان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة ، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش ، وخلا في بني إسرائيل ، ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن ربك قبل أن لا أبقى من قومك أحداً ، فهدأ الدم بإذن الله ، ورفع بيور زاذان عنهم القتل ، وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره ، وقال لبني إسرائيل :إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لست أستطيع أن أعصيه ، قالوا له : افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقاً ، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم ، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل ، فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى بيور زاذان أن ارفع عنهم القتل . ثم انصرف إلى بابل ، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد أن يفنيهم ، وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل ، وذلك قوله : { لتفسدن في الأرض مرتين } ، فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده ، والأخرى خردوش وجنوده ، وكانت أعظم الوقعتين فلم تقم لهم بعد ذلك راية ، وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونانية إلا أن بقايا من بني إسرائيل كثروا ، وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك ، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططيوس بن اسبيانوس الرومي ، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة فليسوا في أمة إلا وعليهم الصغار والجزية ، وبقي بيت المقدس خراباً إلى أيام عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره ، وقال قتادة : بعث الله عليهم جالوت في الأولى فسبى وقتل وخرب " ثم رددنا لكم الكرة عليهم " يعني في زمان داود ، فإذا جاء وعد الآخرة بعث الله عليهم بختنصر فسبى وخرب ، ثم قال : { عسى ربكم أن يرحمكم } فعاد الله عليهم بالرحمة ثم عاد القوم بشر ما بحضرتهم ، فبعث الله عليهم ما شاء من نقمته وعقوبته ، ثم بعث الله عليهم العرب كما قال { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } ، فهم في العذاب إلى يوم القيامة . وذكر السدي بإسناده : أن رجلاً من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل ، يدعى بختنصر ، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم ، فأقبل ليسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب ، فجاء وعلى رأسه حزمة حطب ، فألقاها ثم قعد ، فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم ، فقال : اشتر بهذا طعاماً وشراباً ، فاشترى بدرهم لحما ، وبدرهم خبزاً ، وبدرهم خمراً ، فأكلوا وشربوا ، وفعل في اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث كذلك ، ثم قال : إني أحب أن تكتب لي أماناً إن أنت ملكت يوماً من الدهر ، فقال : تسخر مني ؟ فقال : إني لا أسخر منك ، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يداً ، فكتب له أماناً ، وقال : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ، قال : ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك ، فكتب له وأعطاه ، ثم إن ملك بنى إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ويدني مجلسه وأنه هوى ابنة امرأته ، وقال ابن عباس : ابنة أخته ، فسأل يحيى بن زكريا عن تزويجها فنهاه عن نكاحها فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى بن زكريا ، وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً ، وطيبتها وألبستها الحلي وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه ، فإن أرادها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته ، فإذا أعطاها سألت رأس يحيى بن زكريا أن يؤتى به في طست ، ففعلت ، فلما أرادها قالت لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك ، قال : ما تسأليني ؟ قالت : رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت : ما أريد إلا هذا ، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرقى الدم يعني صعد الدم يغلي ، ويلقي عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي ، فبعث صخابين ملك بابل جيشاً إليهم وأمر عليهم بختنصر ، فسار بختنصر وأصحابه حتى بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم ، فلما اشتد عليهم المقام أراد الرجوع فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل ، فقالت : تريد أن ترجع قبل فتح المدينة ؟ قال : نعم ، قد طال مقامي وجاع أصحابي ، قالت : أرأيت إن فتحت لك المدينة تعطيني ما أسألك فتقتل من أمرتك بقتله وتكف إذا أمرتك أن تكف ؟ قال : نعم ، قالت : إذا أصبحت تقسم جندك أربعة أرباع ، ثم أقم على كل زاوية ربعاً ، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا ، فإنها سوف تتساقط ، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها ، فقالت : كف يدك وانطلقت به إلى دم يحيى بن زكريا وقالت : اقتل على هذا الدم حتى يسكن فقتل عليه سبعين ألفاً حتى سكن ، فلما سكن قالت : كف يدك ، فإن الله لم يرض إذا قتل نبي حتى يقتل من قتله ومن رضي بقتله ، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته فكف عنه وعن أهل بيته ، فخرب بيت المقدس وطرح فيه الجيف ، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا ، وذهب معه بوجوه بني إسرائيل وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت ، فلما قدم بابل وجد صخابين قد مات فملك مكانه ، وكان أكرم الناس عنده دانيال وأصحابه ، فحسدهم المجوس ووشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك ، فسألهم فقالوا : أجل إن لنا رباً نعبده ، ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر الملك بخد فخد لهم فألقوا فيه وهم ستة ، وألقى معهم بسبع ضار ليأكلهم ، فذهبوا ثم راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه معهم لم يخدش منهم أحداً ، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً ، فقال : ما هذا السابع إنما كانوا ستة فخرج السابع وكان ملكاً فلطمه لطمة فصار في الوحوش ، ومسخه الله سبع سنين . وذكر وهب : أن الله مسخ بختنصر نسراً في الطير ثم مسخه ثوراً في الدواب ، ثم مسخه أسداً في الوحوش ، فكان مسخه سبع سنين ، وقلبه في ذلك قلب إنسان ، ثم رد الله إليه ملكه فآمن ، فسئل وهب أكان مؤمنا ؟ فقال : وجدت أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال مات مؤمناً ومنهم من قال أحرق بيت المقدس وكتبه وقتل الأنبياء ، فغضب الله عليه فلم يقبل توبته . وقال السدي : ثم إن بختنصر لما رجع إلى صورته بعد المسخ ورد الله إليه ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدهم المجوس ، وقالوا لبختنصر : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول وكان ذلك فيهم عاراً فجعل لهم طعاماً وشراباً فأكلوا وشربوا ، وقال للبواب : انظر أول من يخرج ليبول فاضربه بالطبرزين ، فإن قال أنا بختنصر ، فقل : كذبت ، بختنصر أمرني ، فكان أول من قام للبول بختنصر فلما رآه البواب شد عليه ، فقال : ويحك أنا بختنصر ، فقال : كذبت ، بختنصر أمرني ، فضربه فقتله ، هذا ما ذكره في المبتدأ ، إلا أن رواية من روى أن بختنصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا غلط عند أهل السير ، بل هم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعياء في عهد أرمياء ، ومن وقت أرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة ، وذلك أنهم كانوا يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس إلى حين عمارته في عهد كيوس بن أخشورش بن أصيهيد ببابل من قبل بهمن بن اسفنديار سبعين سنة ، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الاسكندر على بيت المقدس ثمان وثمانون سنة ، ثم من بعد مملكته إلى مولد يحيى بن زكريا ثلاثمائة وستون سنة . والصحيح من ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق . قوله عز وجل : { قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } أي : أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتب أنهم سيفسدون . والقضاء على وجوه : يكون أمراً ، كقوله : { وقضى ربك } [ الإسراء – 23 ] ويكون حكماً ، كقوله : { إن ربك يقضي بينهم } [ يونس - 93 ، والنحل – 78 ] ويكون خلقاً كقوله : { فقضاهن سبع سماوات } [ فصلت – 2 ] وقال ابن عباس و قتادة : يعني وقضينا عليهم ، " فإلى " بمعنى " على " ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ . { لتفسدن } ، لام القسم ، مجازه : والله لتفسدن ، { في الأرض مرتين } ، بالمعاصي ، والمراد بالأرض : أرض الشام وبيت المقدس ، { ولتعلن } ، و لتستكبرن ، ولتظلمن الناس ، { علواً كبيراً } .
وقوله - سبحانه - : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ . . . } إخبار من الله - تعالى - لهم ، بما سيكون منهم ، حسب ما وقع فى علمه المحيط بكل شئ ، والذى ليس فيه إجبار أو قسر ، وإنما هو صفة انكشافية ، تنبئ عن مآلهم وأحوالهم .
قال أبو حيان : والفعل { قضى } يتعدى بنفسه إلى مفعول ، كقوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل . . } ولما ضُمِّن هنا معنى الإِيحاء أو الإِنفاذ تعدى بإلى أى : وأوحينا أو أنفذنا إلى بنى إسرائيل فى القضاء المحتوم المثبوت وعن ابن عباس : وأعلمناهم . . .
والمراد بالكتاب : التوراة ، وقيل اللوح المحفوظ .
واللام فى قوله { لتفسدن . . . } جواب قسم محذوف تقديره : والله لتفسدن .
ويجوز أن تكون جوابا لقوله - تعالى - : { وقضينا . . . } لأنه مضمن معنى القسم ، كما يقول القائل : قضى الله لأفعلن كذا ، فيجرى القضاء والقدر مجرى القسم . . .
والمقصود بالأرض : عمومها أو أرض الشام .
و { مرتين } منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : { لتفسدن } من غير لفظه ، والمراد لتفسدن إفسادتين وقوله - عز وجل - : { ولتعلن . . } من العلو وهو ضد السفل ، والمراد به هنا : التكبر والتجبر والبغى والعدوان .
والمعنى : وأخبرنا بنى إسرائيل فى كتابهم التوراة خبراً مؤكدا : وأوحينا إليهم بواسطة رسلنا ، بأن قلنا لهم : لتفسدن فى الأرض مرتين ، ولتستكبرون على الناس بغير حق ، استكبارا كبيرا ، يؤدى بكم إلى الخسران والدمار .
والتعبير عما يكون منهم من إفساد بالقضاء وأنه فى الكتاب ، يدل على ثبوته ، إذ أصل القضاء - كما يقول القرطبى - الإِحكام للشئ والفراغ منه .
وأكد إفسادهم واستعلاءهم بلام القسم ، للإِشعار بأنه مع ثبوته ووجوده فهو مصحوب بالتجبر والتكبر والبغى والعدوان .
وكان من مظاهر إفسادهم فى الأرض : تحريفهم للتوراة ، وتركهم العمل بما فيها من أحكام ، وقتلهم الأنبياء والمصلحين .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل ، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض ، تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) . .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم ، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ؛ لا أنه قضاء قهري عليهم ، تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد ( قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء ) إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن ، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد ، ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا :
{ وقضينا إلى بني إسرائيل } وأوحينا إليهم وحيا مقضيا مبتوتا . { في الكتاب } في التوراة . { لتُفسدنّ في الأرض } جواب قسم محذوف ، أو قضينا على إجراء القضاء المبتوت مجرى القسم . { مرّتين } إفسادتين أولاهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شيعاء وقيل أرمياء . وثانيهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليه السلام . { ولتعلنّ علوّاً كبيراً } ولتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتظلمن الناس .
وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب » على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور «لتُفسِدن » بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي «لَتفسُدُن » بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتُفسَدُن » بضم التاء وفتح السين وضم الدال . وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً{[7471]} ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين «المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين{[7472]} ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة .
عطف على جملة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] ، أي آتينا موسى الكتاب هُدى ، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً ، فالمناسبة ظاهرة .
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير ، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب ، وتعدية قضينا بحرف ( إلى ) لتضمين قضينا معنى ( أبلغنا ) ، أي قضينا وأنهينا ، كقوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر } في سورة [ الحجر : 66 ] . فيجوز أن يكون المراد ب ( الكتاب ) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً ، ويوجد في مواضع ، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال ( انظر الإصحاج 26 والإصحاح 28 والإصحاح 30 ) ، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ ( الكتاب ) لمجرد الاهتمام .
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية . فتعريف ( الكتاب ) تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري ، إذ ليس هو الكتابَ المذكور آنفاً في قوله : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم ، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء : أشعياء ، وأرميا ، وحزقيال ، ودانيال ، وهي في الدرجة الثانية من التوراة . وكذلك كتاب النبي مَلاَخي .
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء .
ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر . وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما . وليس المراد بلفظ الكتاب كتاباً واحداً فإن المفرد المعرف بلام الجنس يراد به المتعدد . وعن ابن عباس الكتاب أكثر من الكتب . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضاً وقع بالإظهار دون الإضمار .
وجملة { لتفسدن في الأرض مرتين } إلى قوله { حصيرا } مبيّنة لجملة { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } . وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } اللوح المحفوظ أو كتاب الله ، أي علمه .
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين : حوادث بينهم وبين البابليين ، وحوادث بينهم وبين الرومانيين . فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين : نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين ، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين ، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم .
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات ( بختنصر ) مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم . والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح ، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول . ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني ، وهو أعظم من الأول ، كان سنة 598 قبل المسيح ، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة .
والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم « بختنصر » وسبى كل شعب يهوذا ، وأحرق هيكل سليمان ، وبقيت أورشليم خراباً يباباً . ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة } [ الإسراء : 6 ] .
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم . وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 6 ] الآية .
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين .
والعلو في قوله : { ولتعلن علوا كبيراً } مجاز في الطغيان والعصيان كقوله : { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] وقوله : { إنه كان عالياً من المسرفين } [ الدخان : 31 ] وقوله : { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس .