اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا} (4)

لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزالِ التوراة ، وبأنه جعل التوراة هدًى لهم ، بيَّن أنهم ما اهتدوا بهداه ، بل وقعوا في الفساد ، فقال : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب } والقضاء في اللغة عبارةٌ عن وضع الأشياء عن إحكام ، ومنه قوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] .

وقول الشاعر : [ الكامل ]

وعَليْهِمَا مَسْرُودَتانِ قَضاهُمَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20195]}

ويكون أمراً ؛ كقوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .

ويكون حكماً ؛ كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } [ يونس : 93 ] ويكون خلقاً ؛ كقوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ومعناه [ في ] الآية : أعْلَمنَاهُم ، وأخْبرنَاهُم فيما آتيْناهُم مِنَ الكُتبِ أنه سَيُفسِدُونَ .

وقال ابن عباس وقتادة : " وقَضَيْنَا عليهم " {[20196]} .

و " إلى " بمعنى " على " والمراد بالكتاب اللَّوح المحفوظ .

و " قَضَى " يتعدَّى بنفسه : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] ، وإنما تعدَّى هنا ب " إلى " لتضمُّنه معنى : أنْفَذْنَا وأوْحَينَا ، أي : وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتومِ . ومتعلق القضاء محذوفٌ ، أي : بفسادهم .

وقوله " لتُفْسِدُنَّ " جواب قسمٍ محذوف تقديره : والله لتُفسدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتينِ وهذا القسم مؤكدٌ لمتعلق القضاء .

ويجوز أن يكون " لتُفْسِدُنَّ " جواباً لقوله : " وقَضيْنَا " ، لأنه ضمِّن معنى القسم ، ومنه قولهم : " قضَاءُ الله لأفعلنَّ " فيجرُون القضاء والنَّذرَ مجرى القسمِ ، فيُتلقَّيان بما يُتَلقَّى به القسمُ .

والعامة على{[20197]} توحيد " الكِتابِ " مراداً به الجنس ، وابن جبيرٍ وأبو العالية " في الكُتُب " جمعاً ، جَاءُوا به نصًّا في الجمع .

وقرأ العامة بضمِّ التاء وكسر السِّين مضارع " أفْسَدَ " ، ومفعوله محذوف تقديره : لتُفْسِدنَّ الأديان ، ويجوز ألا يقدَّر مفعولٌ ، أي : لتُوْقعُنَّ الفساد .

وقرأ{[20198]} ابن عبَّاس ونصرُ بن عليٍّ وجابر بن زيد{[20199]} " لتُفْسَدُنَّ " ببنائه للمفعولِ ، أي : ليُفْسِدنَّكُمْ غَيرُكم : إمَّا من الإضلال أو من الغلبة . وقرأ{[20200]} عيسى بن عمر بفتحِ التَّاء وضمِّ السين ، أي : فَسدتُمْ بأنفسكم .

قوله : " مرَّتينِ " منصوب على المصدر ، والعامل فيه " لتُفْسِدُنَّ " لأن التقدير : مرتين من الفساد .

وقوله : " عُلُوًّا " العامة على ضمِّ العين واللام مصدر علا يعلو ، وقرأ{[20201]} زيد بن عليٍّ " عِلياً " بكسرهما والياء ، والأصل الواو ، وإنما أعِلَّ على اللغة القليلة ؛ وذلك أن فُعولاً المصدر ، الأكثر فيه التصحيح ؛ نحو : عَتَا عُتُواً ، والإعلال قليلٌ ؛ نحو { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] على أحد الوجهين ؛ كما سيأتي ، وإن كان جمعاً ، فالكثير الإعلال ، نحو : " جِثِيًّا " وشذَّ : بَهْوٌ وبُهُوٌّ ، ونَجْوٌ ونُجُوٌّ ، وقاسه الفراء .

فصل

معنى { وَقَضَيْنَآ } : أوحينا { إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض } ، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة .

{ فِي الأرض } يعني أرض الشَّام وبيت المقدس .

{ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } أي : يكون استعلاؤكم على النَّاس بغير الحقِّ استعلاءاً عظيماً ؛ لأنَّه يقال لكلِّ متكبِّر متجبِّر : قد علا وتعظَّم .


[20195]:تقدم.
[20196]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/20) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/296) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
[20197]:ينظر: الشواد 74، والبحر 6/8 والدر المصون 4/371.
[20198]:ينظر: المحتسب 2/14، والشواذ 75، والكشاف 2/649، والقرطبي 10/141، والبحر 6/8، والدر المصون 4/371.
[20199]:في أ: يزيد.
[20200]:ينظر مراجع القراءة السابقة.
[20201]:ينظر: البحر 6/8، والدر المصون 4/371.