البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا} (4)

{ قَضى } يتعدّى بنفسه إلى مفعول كقوله : { فلما قضى موسى الأجل } ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدّى بإلى أي وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت .

وعن ابن عباس معناه أعلمناهم ، وعنه أيضاً قضينا عليهم ، وعنه أيضاً كتبنا .

واللام في { لتفسدن } جواب قسم ، فإما أن يقدر محذوفاً ويكون متعلق القضاء محذوفاً تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم ، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة ، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف .

ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدنّ جوابه ، كقولهم قضاء الله لأقومنّ .

وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتب على الجمع والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس ، والظاهر أن يراد التوراة .

وقرأ ابن عباس ونصر بن عليّ وجابر بن زيد لتفسدنّ بضم التاء وفتح السين مبنياً للمفعول أي يفسدكم غيركم .

فقيل من الإضلال .

وقيل من الغلبة .

وقرأ عيسى لتفسدنّ بفتح التاء وضم السين أي فسدتم بأنفسكم بارتكاب المعاصي مرتين أولاهما قتل زكرياء عليه السلام قاله السدّي عن أشياخه ، وقاله ابن مسعود وابن عباس ، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على المُلك وقتل بعضهم بعضاً ولا يسمعون من زكريا .

فقال الله له : قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدواً عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها .

وقيل : سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم قيل قالوا حين حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت ، فقطعوه بالمنشار في الشجرة .

وقيل شعياء قاله ابن إسحاق وإن كان زكرياء مات موتاً ولم يقتل وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو شعياء ، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قبل يحيى بن زكرياء وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمّة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله ، قيل وكان بين آخر الأولى والثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكاً مؤيداً ثابتاً .

وقيل سبعون سنة .

وقال الكلبي لتعصنّ في الأرض المقدسة ولتعلنّ أي تطغون وتعظمون .

وقرأ زيد بن علي علياً كبيراً في الموضعين بكسر اللام والياء المشدّدة .

وقراءة الجمهور { علواً } والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله : { وعتوا عتواً كبيراً } بخلاف الجمع ، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهوّ خلافاً للفراء إذ جعل ذلك قياساً