فلما فرغ الهدهد من كلامه . { قال } سليمان للهدهد : { سننظر أصدقت } فيما أخبرت ، { أم كنت من الكاذبين } فدلهم الهدهد على الماء ، فاحتفروا الركايا ، وروي الناس والدواب ، ثم كتب سليمان كتاباً :
من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ .
بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فلا تعلوا علي واتوني مسلمين . قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه . وقال قتادة : وكذلك الأنبياء كانت تكتب جملاً لا يطيلون ولا يكثرون . فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه .
وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا } وسيأتي نصه { فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي استأخر غير بعيد { فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } إليك وما يتراجعون به
فذهب به فألقاه عليها فقالت لقومها { إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } أي جليل المقدار من أكبر ملوك الأرض
ثم بينت مضمونه فقالت { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : لا تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني ، وانقادوا لأوامري وأقبلوا إلي مسلمين .
وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه ، والبقاء على حالهم التي هم عليها والانقياد لأمره والدخول تحت طاعته ، ومجيئهم إليه ودعوتهم إلى الإسلام ، وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب ،
ثم تحكى السور بعد ذلك ما كان من سليمان - عليه السلام - وما كان من ملكه سبأ بعد أن وصلها كتابه ، فقال - تعالى - : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ . . . } .
قوله - سبحانه - : { قَالَ سَنَنظُرُ . . } حكاية لما قاله سليمان - عليه السلام - فى رده على الهدهد ، الذى قال له فى تبرير عذره : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ . . } إلخ .
والفعل " ننظر " من النظر بمعنى التأمل فى الأمور ، والتدبر فى أحوالها ، والسين للتأكيد .
أى : قال سليمان للهدهد بعد أن استمع إلى حجته : سننظر - أيها الهدهد - فى أقوالك ، ونرى أكنت صادقاً فيها ، أم أنت من الكاذبين .
وهكذا نرى نبى الله سليمان - وهو العاقل الحكيم - لا يتسرع فى تصديق الهدهد أو تكذيبه ، ولا يخرجه النبأ العظيم الذى جاءه به الهدهد ، عن اتزانه ووقاره ، وإنما يبنى أحكامه على ما سيسفر عنه تحققه من صدق خبره أو كذبه .
وهذا هو اللائق بشأن النبى الكريم سليمان ، الذى آتاه الله - تعالى - النبوة والملك والحكمة .
قال القرطبى " وقوله : { سَنَنظُرُ } من النظر الذى هو التأمل والتصفح . { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } أى : فى مقالتك . و { كُنتَ } بمعنى أنت وقال : { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ } ولم يقل سننظر فى أمرك ، لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم فى قوله : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } صرح له سليمان بقوله : سننظر أصدقت أم كذبت ، فكان ذلك كفاء لما قاله " .
ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه ؛ ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به . إنما يأخذ في تجربته ، للتأكد من صحته . شأن النبي العادل والملك الحازم :
( قال : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين . اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ، ثم تول عنهم ، فانظر ماذا يرجعون ) .
ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب ، فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه ، حتى يفتح ويعلن هناك . وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} سليمان للهدهد... {سننظر} فيما تقول، {أصدقت} في قولك {أم كنت} يعني: أم أنت {من الكاذبين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالَ سليمان للهدهد: سَنَنْظُرُ فيما اعتذرت به من العذر، واحتججت به من الحجة لغيبتك عنا، وفيما جئتنا به من الخير "أصَدَقْتَ "في ذلك كله "أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ" فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} أي ننظر أصدقت في ما أخبرت، وأتيت من أمر بلقيس {أم كنت من الكاذبين} في ذلك. وقف في خبره، ولم يصدقه، ولم يكذبه، إلى أن يظهر له الصدق أو الكذب. وهكذا الواجب على كل من أخبر بخبر أن يقف فيه إلى أن يظهر له الحق في ذلك إن كان الخبر مما يحتمل الغلط والكذب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما لم يقل: أصدقت أم كذبت، وقال: أم كنت من الكاذبين، لأنه أليق في الخطاب، لأنه قد يكون من الكاذبين بالميل إليهم، وقد يكون منهم بالقرابة التي بينه وبينهم. وقد يكون منهم بأن يكذب كما كذبوا ومثل ذلك في الخطاب ولينه قولهم: ليس الأمر على ما تقول، فهو ألين من: كذبت، لأنه قد يكون ليس كما تقول من جهة الغلط الذي لا يوصف بالصدق ولا بالكذب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي هذا دلالة على أن خَبَرَ الواحدِ لا يوجِب العلمَ، فيجب التوقفُ فيه على حدِّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يُطْرَح بل يجب أن يُتَعَرَّفَ: هل هو صدق أم كذب؟ ولمَّا عَرَفَ سليمان هذا العُذْرَ تَرَكَ عقوبتَه وما تَوَعَّدَه به... وكذلك سبيلُ الوالي؛ فإنَّ عَدْلَه يمنعه من الحيفِ على رعيته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَنَنظُرُ} من النظر الذي هو التأمل والتصفح. وأراد: أصدقت أم كذبت، إلا أن {كُنتَ مِنَ الكاذبين} أبلغ، لأنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة، وإذا كان كاذباً اتهم بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سننظر} أي نختبر ما قلته {أصدقت} أي فيه فنعذرك. ولما كان الكذب بين يديه -لما أوتيه من العظمة بالنبوة والملك الذي لم يكن لأحد بعده- يدل على رسوخ القدم فيه، قال: {أم كنت} أي كوناً هو كالجبلة {من الكاذبين} أي معروفاً بالانخراط في سلكهم، فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان عريقاً في الكذب دون أم كذبت، لأن هذا يصدق بمرة واحدة.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي التعبير بقوله: {كنت من الكاذبين}، دون أن يقول أم كذبت، إيذان بأن تلفيق الأقوال المنمقة، واختيار الأسلوب الذي يستهوي السامع إلى قبولها من غير أن يكون لها حقيقة تعبر عنها -لا يصدر إلا ممّن مرن على الكذب وصار سجيّة له حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه، ومن كان كذلك لا يوثق به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه؛ ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به. إنما يأخذ في تجربته، للتأكد من صحته. شأن النبي العادل والملك الحازم: (قال: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم، فانظر ماذا يرجعون). ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب، فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه، حتى يفتح ويعلن هناك. وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والنظر هنا نظر العقل وهو التأمُّل، لا سيما وإقحام {كنتَ} أدخل في نسبته إلى الكذب من صيغة {أَصدقت} لأن فعل {كنتَ من الكاذبين} يفيد الرسوخ في الوصف بأنه كائن عليه. وجملة: {من الكاذبين} أشدّ في النسبة إلى الكذب بالانخراط في سلك الكاذبين بأن يكون الكذب عادة له. وفي ذلك إيذان بتوضيح تهمته بالكذب ليتخلص من العقاب، وإيذان بالتوبيخ والتهديد وإدخال الروع عليه بأنَّ كذبه أرجح عند الملك ليكون الهدهد مغلِّباً الخوف على الرجاء، وذلك أدخل في التأديب على مثل فعلته وفي حرصه على تصديق نفسه بأن يبلغ الكتاب الذي يرسله معه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
"سننظر" أي أننا نؤكد أننا سننظر في حقيقة ما جئت به إلينا، "أصدقت أم كنت من الكاذبين". الاستفهام فيه إيماء إلى تغليب الكذب، لأنه في معادلة الكذب تكلم بما يوهم أنه ربما يكون كاذبا، فقال {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، فقد ذكر احتمال الكذب بما يفيد قربه، فأكده بالوصف بالكذب، وبكان الدالة على الدوام، وبكونه أن يكون من صفوف الكاذبين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أصغى سليمان (عليه السلام) إلى كلام الهُدهد بكل اهتمام.. وفكّر مليّاً، ولعل سليمان كان يظنُّ أن كلام الهدهد صحيح، ولا دليل على كذب بهذا الحجم.. لكن حيث أن هذه المسألة لم تكن مسألة «ساذجةً» بسيطة، ولها أثر كبير في مصير بلد كامل وأمّة كبيرة!.. فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين).
وهذا الكلام يثبت بصورة جيدة أنّه يجب الاهتمام في المسائل المصيرية المهمّة، حتى لو أخبر بها «فردٌ» صغير، وأن يُعجّل في التحقيقات اللازمة «كما تقتضيه السين» في جملة «سننظر»!
سليمان (عليه السلام) لم يتهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب.. ولم يُصدّق كلامه دون أي دليل... بل جعله أساساً للتحقيق!