وبعد أن بلغت حاشيتها بمصدر الكتاب ومضمونه ، استأنفت حديثها فقالت : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي } والفتوى : الجواب على المستفتى فيما سأل عنه ، والمراد بها هنا : المشورة وإبداء الرأى .
أى : قالت يأيها الأشراف والقادة من قومى ، أشيروا على ماذا سأفعل فى أمر هذا الكتاب الذى جاءنى من سليمان ، والذى يطلب منا فيه ما سمعتم ؟
ثم أضافت إلى ذلك قولها : { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ } أى : أنتم تعلمون أنى لا أقطع أمراً يتعلق بشئون المملكة إلا بعد استشارتكم ، وأخذ رأيكم .
وفى قولها هذا دليل على حسن سياستها ، ورجاحة عقلها ، حيث جمعت رءوس مملكتها ، واستشارتهم فى أمرها ، وأعلمتهم أن هذه عادة مطردة عندها . وبذلك طابت نفوسهم ، وزادت ثقتهم فيها .
ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب ؛ ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم ، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة ، برضاهم وموافقتهم :
قالت : يا أيها الملأ أفتوني في أمري ماكنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . .
وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة ؛ فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم ، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء . وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه( كريم )وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة ، ولكنها لا تقول هذا صراحة ، إنما تمهد له بذلك الوصف . ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استشارتهم ف {قالت يا أيها الملؤا} يعني: الأشراف... وهم أهل مشورتها، فقالت لهم: {أفتوني في أمري} من هذا {ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون}، تقول: ما كنت قاضية أمرا حتى تحضرون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها:"يا أيّها المَلأ أَفْتُونِي فِي أمْرِي" تقول: أشيروا عليّ في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألقي إليّ، فجعلت المشورة فتيا.
وقوله: "ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرا حتى تَشْهَدُونِ "تقول: ما كنت قاضية أمرا في ذلك حتى تشهدون، فأشاوركم فيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن. والمراد بالفتوى ههنا: الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم، استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{أَفْتُونِي فِي أمري} أي: بينوا لي ما أفعل، وأشيروا علي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تشوفت النفس إلى جوابهم، اعلم سبحانه بأنهم بهتوا فقال: {قالت يا أيها الملأ} ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها: {أفتوني} أي تكرموا عليّ بالإبانة عما أفعله {في أمري} هذا الذي أجيب به عن هذا الكتاب، جعلت المشورة فتوى توسعاً، لأن الفتوى: الجواب في الحادثة، والحكم بما هو صواب مستعار من الفتاء في السن الذي هو صفوة العمر؛ ثم عللت أمرها لهم بذلك بأنها شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير، فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم، فقال: {ما كنت} أي كوناً ما {قاطعة أمراً} أي فاعلته وفاصلته غير مترددة فيه {حتى تشهدون} وقد دل هذا على غزارة عقلها وحسن أدبها، ولذلك جنت ثمرة أمثال ذلك طاعتهم لها في المنشط والمكره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أخبروني ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي: ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب؛ ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة، برضاهم وموافقتهم:
قالت: يا أيها الملأ أفتوني في أمري ماكنت قاطعة أمرا حتى تشهدون..
وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة؛ فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء. وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه (كريم) وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف. ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {قاطعة أمراً} عاملةً عملاً لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان. وصيغة {كنت قاطعة} تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم، فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرِّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها... التفتت إليهم و (قالت يا أيّها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون).
لقد أرادت الملكة بهذه الاستشارة تقوية مركزها في قومها، وأن تلفت أنظارهم إليها، كما أرادت ضمناً أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تُقدم عليه من تصميم.
كلمة «أفتوني» مشتقّة من (الفتوى) معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة... فملكة سبأ أرادت بهذا التعبير أن تشعرهم بصعوبة المسألة أوّلا، وأن يدققوا النظر ويجمعوا الرأي فيها ليتجنبوا الخطأ ثانياً.
«تشهدون» مأخوذ من مادة «الشهود»، ومعناه الحضور... الحضور المقرون بالتعاون والمشورة!.