قوله تعالى : { قالت } بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال : { إن الملوك إذا دخلوا قرية } عنوة ، { أفسدوها } خربوها ، { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } أي : أهانوا أشرافها وكبراءها ، كي يستقيم لهم الأمر ، تحذرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ، وتناهي الخبر عنها ها هنا ، فصدق الله قولها فقال : { وكذلك يفعلون } أي : كما قالت هي يفعلون .
فقالت لهم -مقنعة لهم عن رأيهم ومبينة سوء مغبة القتال- { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } قتلا وأسرا ونهبا لأموالها ، وتخريبا لديارها ، { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي : جعلوا الرؤساء السادة أشراف الناس من الأذلين ، أي : فهذا رأي غير سديد ، وأيضا فلست بمطيعة له قبل الاختبار وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها ، وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا .
وهنا يحكى لنا القرآن الكريم ما كانت عليه تلك المرأة من دهاء وكياسة ، وإيثار للسلم على الحرب ، واللين على الشدة ، فقال - تعالى - : { قَالَتْ إِنَّ الملوك } من شأنهم أنهم { إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } من القرى . أو مدينة من المدن ، بعد تغلبهم على أهلها عن طريق الحرب والقتال . . . { أَفْسَدُوهَا } أى : أشاعا فيها الفساد والخراب والدمار .
وفوق كل ذلك : { وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أى : أهانوا أشرافها ورؤساءها ، وجعلوهم أذلة بعد أن كانوا أعزة .
{ وكذلك يَفْعَلُونَ } أى : وهذه هى عادتهم التى يفعلونها عند دخولهم قرية من القرى ، عن طريق القهر والقسر والقتال .
والمقصود من قولها هذا : التلويح لقومها بأن السلم أجدى من الحرب ، وأن الملاينة مع سليمان - عليه السلام - أفضل من المجابهة والمواجهة بالقوة .
وهنا تظهر شخصية " المرأة " من وراء شخصية الملكة . المرأة التي تكره الحروب والتدمير ، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة :
قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون . وإني مرسله إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون !
فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية [ والقرية تطلق على المدينة الكبيرة ] أشاعوا فيها الفساد ، وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطموا القوة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ؛ وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة . وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه .
والهدية تلين القلب ، وتعلن الود ، وقد تفلح في دفع القتال . وهي تجربة . فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا ، ووسائل الدنيا إذن تجدي . وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة ، الذي لا يصرفه عنه مال ، ولا عرض من أعراض هذه الأرض .
{ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية } عنوة وغلبة . { أفسدوها } تزييف لما أحست منهم من الميل إلى المقاتلة بادعائهم القوى الذاتية والعرضية ، وأشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم ، ثم أن الحرب سجال لا تدري عاقبتها . { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الإهانة والأسر { وكذلك يفعلون } تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة ، أو تصديق لها من الله عز وجل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها} يعني: أهلكوها...
{وجعلوا أعزة أهلها أذلة} يعني: أهانوا أشرافها، وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر، يقول الله عز وجل: {وكذلك يفعلون} كما قالت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت صاحبة سبأ للملأ من قومها، إذ عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان إن أَمَرَتهم بذلك:"إنّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً" عَنْوةً وغَلَبةً "أفْسَدُوها "يقول: خرّبوها "وَجَعَلُوا أعِزّةَ أهْلِها أذِلّةً" وذلك باستعبادهم الأحرار، واسترقاقهم إياهم وتناهى الخبر منها عن الملوك في هذا الموضع، فقال الله: "وكذلكَ يَفْعَلُونَ" يقول تعالى ذكره: وكما قالت صاحبة سبأ تفعل الملوك، إذا دخلوا قرية عَنْوة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أهل التأويل: هذه شهادة من الله لها بما قالت، والتصديق لها في ما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما أحست منهم الميل إلى المحاربة، رأت من الرأي الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن، ورتبت الجواب، فزيفت أولاً ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه ب {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} عنوة وقهراً {أَفْسَدُوهَا} أي خرّبوها -ومن ثمة قالوا للفساد: الخربة -، وأذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها؛ وقتلوا وأسروا، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها، ثم قالت: {وكذلك يَفْعَلُونَ} أرادت: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد. وقيل: هو تصديق من الله لقولها، وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن استباح حراماً فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الملوك} أي مطلقاً، فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر {إذا دخلوا قرية} أي عنوة بالقهر والغلبة {أفسدوها} أي بالنهب والتخريب {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي بما يرونهم من البأس، ويحلون بهم من السطوة. ثم أكدت هذا المعنى بقولها: {وكذلك} أي ومثل هذا الفعل العظيم الشأن، الوعر المسلك البعيد الشأو {يفعلون} دائماً، هو خلق لهم مستمر جميعهم على هذا، فكيف بمن تطيعه الطيور، ذوات الوكور، فيما يريده من الأمور.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أبدت لهم رأيها مفضِّلةً جانب السلم على جانب الحرب، وحاذرة من الدخول تحت سلطة سليمان اختياراً لأن نهاية الحرب فيها احتمال أن ينتصر سليمان فتصير مملكة سبأ إليه..وافتتاح جملة: {إن الملوك} بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وتحقيقه، فقولها {إذا دخلوا قرية أفسدوها} استدلال بشواهد التاريخ الماضي ولهذا تكون {إذا} ظرفاً للماضي بقرينة المقام..وجملة: {وكذلك يفعلون} استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل الذي في قوله: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها}. والإشارة إلى المذكور من الإفساد وجَعْلِ الأعزة أذلة، أي فكيف نلقي بأيدينا إلى من لا يألو إفساداً في حالنا. فدبرت أن تتفادى من الحرب ومن الإلقاء باليد، بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بإرسال هدية إليه، وقد عزمت على ذلك ولم تستطلع رأي أهل مشورتها لأنهم فوضوا الرأي إليها، ولأن سكوتهم على ما تخبرهم به يُعدّ موافقة ورضى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولمّا رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة، لذلك (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً).
فيقتلون جماعةً منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيّهم و ينهبون ثرواتهم وأموالهم..
ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً: (وكذلك يفعلون).
وفي الحقيقة.. إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين:
لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا يكترثون بمصالح الأُمّة وعزتها... وهما على طرفي نقيض دائماً.
ثمّ أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟
فينبغي أن نرسل شيئاً إليه (وإنّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون).