الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (27)

الرابعة عشرة- قوله تعالى : " سننظر " من النظر الذي هو التأمل والتصفح . " أصدقت أم كنت من الكاذبين " في مقالتك . و " كنت " بمعنى أنت . وقال : " سننظر أصدقت " ولم يقل سننظر في أمرك ؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله : " أحطت بما لم تحط به " صرح له سليمان بقوله : سننظر أصدقت أم كذبت ، فكان ذلك كفاء{[12282]} لما قاله .

الخامسة عشرة- " أصدقت أم كنت من الكاذبين " دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته ، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه . وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد ، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد . وفي الصحيح : ( ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل ) . وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه . ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة . كما فعل سليمان ، فإنه لما قال الهدهد : " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم " لم يستفزه الطمع ، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال : " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله " فغاظه حينئذ ما سمع ، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر ، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك ، فقال : " سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين " ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة ، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها ، فقال المغيرة ابن شعبة : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة . قال فقال عمر : ايتني بمن يشهد معك . قال : فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال : لا تبرح حتى تأتي بالمخرج من ذلك ، فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد . ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره .


[12282]:في الأصول "جفا" والتصويب من " أحكام القرآن" لابن العربي.