53- وإنما مكَّن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشُّبه والعراقيل في سبيل الدعوة ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس ، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم ، والمنافقون ومرضى القلوب يزدادون ضلالا بترويج هذه الشُّبه ومناصرتها ، ولا عجب في أن يقف هؤلاء الظالمون هذا الموقف فإنهم لجُّوا في الضلال ، وأوغلوا في العناد والشقاق .
قوله تعالى : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } أي : محنة وبلية{ للذين في قلوبهم مرض }شك ونفاق { والقاسية } يعني الجافية ، { قلوبهم } عن قبول الحق وهم المشركون ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك ، ثم نسخ ورفع فازدادوا عتواً ، وظنوا أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل ، { وإن الظالمين } المشركين { لفي شقاق } ضلال{ بعيد }أي : في خلاف شديد .
{ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً } لطائفتين من الناس ، لا يبالي الله بهم ، وهم الذين { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم ، فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ عليها ، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ، داخلهم الريب والشك ، فصار فتنة لهم .
{ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } أي : الغليظة ، التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير ، ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها ، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ، جعلوه حجة لهم على باطلهم ، وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله ، ولهذا قال : { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : مشاقة لله ، ومعاندة للحق ، ومخالفة له ، بعيد من الصواب ، فما يلقيه الشيطان ، يكون فتنة لهؤلاء الطائفتين ، فيظهر به ما في قلوبهم ، من الخبث الكامن فيها ، وأما الطائفة الثالثة ، فإنه يكون رحمة في حقها ، وهم المذكورون بقوله : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الحكمة فى إلقاء الشيطان لشبهه وضلالته هى امتحان الناس فقال : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ . . . } .
أى : فعل ما فعل - سبحانه - ليجعل ما يلقيه الشيطان من تلك الشبه فى القلوب فتنة واختبارا وامتحانا ، للذين فى قلوبهم مرض ، أى : شك وارتياب ، وهم المنافقون ، وللذين قست قلوبهم ، وهم الكافرون المجاهرون بالجحود والعناد .
فقوله - تعالى - : { لِّيَجْعَلَ . . . } متعلق ب { أَلْقَى } أى : ألقى الشيطان فى أمنية الرسل والأنبياء ليجعل الله - تعالى - ذلك لإلقاء فتنة الذين فى قلوبهم مرض .
ومعنى كونه فتنة لهم : أنه سبب لتماديهم فى الضلال ، وفى إصرارهم على الفسوق والعصيان .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الفريقين فقال : { وَإِنَّ الظالمين } ، وهم من فى قلوبهم مرض ، ومن قست قلوبهم { لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أى لفى خلاف للحق شديد . بسبب نفاقهم وكفرهم .
{ ليجعل ما يلقي الشيطان } علة لتمكين الشيطان منه ، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل . { فتنة للذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق . { والقادسية قلوبهم } المشركين . { وإن الظالمين } يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم . { لفي شقاق بعيد } عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين .
وقوله { وما أرسلنا } الآية تسليه للنبي عليه السلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أُمنية النبي عليه السلام ، و { تمنى } معناه المشهور أراد وأحب ، وقالت فرقة هو معناها في الآية ، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا : فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل ، فحين قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }{[8409]} [ النجم : 20 ] ألقى الشيطان< تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى> فقال الكفارك هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد وفرحوا بذلك ، فلما انتهى إلى السجدة{[8410]} سجد الناس أجمعون إلا أمية بن حلف فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا ، قال البخاري : هو أمية بن خلف ، وقال بعض الناس : هو الوليد بن المغيرة ، وقال بعض الناس : هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمداً ففرحوا بذلك وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا{[8411]} ، وقالت فرقة { تمنى } معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
تمنى كتاب الله أول ليلة . . . وآخرها لاقى حمام المقادر{[8412]}
«تمنى داود الزبور على رسل »{[8413]} . . . وتأولوا قوله تعالى «إلا أماني »{[8414]} أي إلا تلاوة ، وقالت هذه الفرقة في معنى سبب «إلقاء الشيطان » في تلاوة النبي عليه السلام ما تقدم آنفاً من ذكر الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث الذي فيه :هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور{[8415]} بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن «الشيطان ألقى » ولا يعينون هذا السبب ولا غيره ، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو الألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة ، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ وأن الشطيان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه ، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدارسه سورة النجم فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل لم آتك بهذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افتريت على الله وقلت ما لم يقل لي » وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية { وما أرسلنا من قبلك من رسول } ، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال : هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }{[8416]} [ النجم : 20 ] وصوب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التَبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها{[8417]} ع و { تمنى } على هذا التأويل بمعنى تلا ولا بد ، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي ع و «الرسول » أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم يرسلوا وكل رسول نبي ، و «النسخ » في هذه الآية الإذهاب ، كما تقول نسخت الشمس الظل وليس يرفع ما استقر من الحكم ، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي عليه السلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة ، وفي بعضها تلك الغرانيق ، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار ، ومنه قول الشاعر :
«أهلا بصائدة الغرانق »{[8418]} . . . وقوله { ليجعل ما يلقي الشيطان } الآية ، اللام في قوله { ليجعل } متعلقة بقوله { فينسخ الله }{[8419]} و «الفتنة » الامتحان والاختبار ، و { الذين في قلوبهم مرض } هم ، عامة الكفار ، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة ، و «الشقاق » البعد عن الخير ، والضلال والكون في شق الصلاح ، و { بعيد } ، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة .