ووصاني أيضا ، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان ، وأقوم بما ينبغي له ، لشرفها وفضلها ، ولكونها والدة لها حق الولادة وتوابعها .
{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا ْ } أي : متكبرا على الله ، مترفعا على عباده { شَقِيًّا ْ } في دنياي أو أخراي ، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا ، متواضعا لعباد الله ، سعيدا في الدنيا والآخرة ، أنا ومن اتبعني .
وقوله : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } أي : وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة الله ربه ؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن{[18811]} بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] وقال { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] .
وقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } أي : ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي ، فأشقى بذلك .
قال سفيان الثوري : الجبار الشقي : الذي يقبل{[18812]} على الغضب .
وقال بعض السلف : لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا ، ثم قرأ : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } ، قال : ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورًا ، ثم قرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [ النساء : 36 ]
وقال قتادة : ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، في آيات سلطه الله عليهن ، وأذن له فيهن ، فقالت : طوبى للبطن الذي حملك وللثدي الذي أرضعت به ، فقال نبي الله عيسى ، عليه السلام ، يجيبها : طوبى لمن تلا كلام{[18813]} الله ، فاتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًّا .
وقرأ الجمهور «وَبَراً » بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه على قوله { مباركاً } . وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة «بِراً » بكسر الباء فقال بعضها نصبه على العطف على قوله { مباركاً } فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه ، وقال بعضهما نصبه بقوله { وأوصاني } أي «وأوصاني براً بوالدتي » حذف الجار كأنه يريد «وأوصاني ببر والدتي »{[7954]} . وحكى الزهراوي هذه القراءة «وبرٍّ » بالخفض عطفاً على { الزكاة } ، وقوله { بوالدتي } بيان لنه لا والد له ، وبهذا القول برأها قومها .
و «الجبار » المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروهاً ، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع ، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنة الليل لا مسكن له . قال قتادة وكان يقول : سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: مخبرا عن قيل عيسى للقوم: وجعلني مباركا وبرّا: أي جعلني برّا بوالدتي. والبرّ هو البارّ، يقال: هو برّ بوالده، وبارّ به...
وقوله:"ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقِيّا" يقول: ولم يجعلني مستكبرا على الله فيما أمرني به ونهاني عنه، شقيا، ولكن ذللني لطاعته وجعلني متواضعا.. عن بعض أهل العلم، قال: لا تجد عاقّا إلا وجدته جبارا شقيا، ثم قرأ "وَبَرّا بِوَالِدَتي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقِيّا "قال: ولا تجد سيئ المِلْكة إلا وجدته مختالاً فخورا، ثم قرأ "ومَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} فيه وجهان:
أحدهما: أن الجبار الجاهل بأحكامه، الشقي المتكبر عن عبادته.
الثاني: أن الجبار الذي لا ينصح، والشقي الذي لا يقبل النصيحة.
ويحتمل ثالثاً: أن الجبار الظالم للعباد، والشقي الراغب في الدنيا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَبَرَّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أي لم يجعلني غيرَ قابلٍ للنصيحة. ويقال {شَقِيّاً}: أي متكبراً متجبراً. ويقال مختوماً بكُفْرٍ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وبرا بوالدتي) أي: رءوفا وعطوفا بوالدتي. وقوله: (ولم يجعلني جبارا شقيا) الجبار: المتكبر، والشقي هو الذي يعصي الله، ويقال: الجبار هو الذي يقتل، ويضرب على الغضب، وهذا قول معروف، ويقال: الجبار هو الذي يظلم الناس، والشقي هو الذي يذنب، ولا يتوب من الذنب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... معنى أوصاني... كلفني؛ لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الجبار» المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروهاً، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنه الليل لا مسكن له.
الصفة السادسة: قوله تعالى: {وبرا بوالدتي} أي جعلني برا بوالدتي... إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. الصفة السابعة: قوله: {ولم يجعلني جبارا شقيا}... أي ما جعلني متكبرا بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جبارا لكنت عاصيا شقيا.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط "شقيا "أي خائبا من الخير... ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وبراً} أي و جعلني براً، أي واسع الخلق طاهره. ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال: {بوالدتي} أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها {ولم يجعلني جباراً شقياً} بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ووصاني أيضا، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان، وأقوم بما ينبغي له، لشرفها وفضلها، ولكونها والدة لها حق الولادة وتوابعها. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا ْ} أي: متكبرا على الله، مترفعا على عباده {شَقِيًّا ْ} في دنياي أو أخراي، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا، متواضعا لعباد الله، سعيدا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البَرّ بفتح الباء: اسم بمعنى البار. وتقدم آنفاً. وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه، لأن برّ الوالدين كان ضعيفاً في بني إسرائيل يومئذ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البرّ بها. والجبّار: المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم. وقد تقدم في سورة هود (59) قوله: {واتبعوا أمر كل جبار عنيد}. والشقيّ: الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة، وهو ضدّ السعيد. وتقدّم عند قوله تعالى: {فمنهم شقي وسعيد} في آخر سورة هود (105). ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص الكريم أمران جليلان: الأمر الأول: إيجابي وهو بر أمه، وحسن صحبتها والإحسان إليها جزاء ما قالت بسببه فقد وضعته كرها وحملته كرها، وقالت من الأذى النفس والملام وتحملت ما تحملت في سبيل ذلك حتى برأها الله تعالى بكلامه هو، ومهما يكن فقد تحملت قبل أذى كثيرا، فكانت جديرة بحسن الصحبة والإحسان، وهو البر الطاهر الكريم، بالآدمية الروحية. الأمر الثاني: سلبي، وهو قول تعالى: {ولم يجعلني جبارا شقيا}، الجبار هو الظالم المتكبر المتطاول على الناس بالحق الذي يؤذي الضعفاء ويستعلي عليهم، وقد كان من نعمة الله تعالى التي أنعم الله تعالى على عيسى عليه السلام أنه لم يجعله جبارا، وقد وصف الجبار بأنه شقي مطرود من رحمة الله، وقد كتبت عليه الشقوة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو أنه مبغض إلى الناس يتمنون به النازلات ويتحيّنون له الفرص ليردّوه وهو يتوجّس بنفسه من الناس وممن يحيطون به، فهو في شقاء دائم لنفرة الناس منه، فلا سعادة في نفسه وإن حسبه الناس سعيدا فهو شقي...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} بما يمثله البرّ من رأفةٍ ورحمةٍ ورعايةٍ لهذه الإنسانة التي تحوي أمومتها كل معاني الخير والعطاء، ما يجعل البر هنا اعترافاً بالجميل وعاطفة إنسانية تشمل الوالدين وتمتد إلى كل الناس الآخرين الذين يحسنون إليه من حوله. {وَلَمْ يجعلني جَبَّاراً شَقِيّاً} في ما يُعبر عنه بالجبروت النفسي من طغيان الفكر والشعور والسلوك، من موقع الإحساس الأناني بأن للذات الحق على الناس، دون أن يكون لأحد الحق عليها.. وما تنتجه الشقاوة من مشاكل للناس في حياتهم وتضغط عليهم بالسوء والعذاب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كلمة «جبار» تطلق على الشخص الذي يعتقد بأنّ له كل الحق على الناس ولا يعتقد بأنّ لأحد عليه حقاً. وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إِذا غضب، ولا يتبع ما يأمر به العقل، أو أنّه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر، وهذه كلها صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان. و«الشقي» تقال للشخص الذي يهيئ أسباب البلاء والعقاب لنفسه، وبعضهم فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن بعضهما.