هذا وهم يعلمون أنه رسول الله حقا بما شاهدوا{[1]} من الآيات الباهرة ما لم يشاهد غيرهم ، ولكن حملهم على ذلك الشقاء والظلم والعناد ، والله تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به ، وسيجازيهم عليه ، ولهذا قال : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ } أي : الخفي والجلي { فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } أي : في جميع ما احتوت عليه أقطارهما { وَهُوَ السَّمِيعُ } لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات { الْعَلِيمُ } بما في الضمائر ، وأكنته السرائر .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما لقنه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الرد عليهم ، فقال : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض وَهُوَ السميع العليم } .
أى : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الرد على ما تناجوا به سرا : ربى الذى أرسلنى لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . يعلم ما تقولونه سواء كان سرا أم جهرا ، وسواء أكان القائل موجودا فى السماء أم فى الأرض ، وهو وحده السميع لجميع ما يسمع ، العليم بكل شىء فى هذا الكون .
وما دام المر كذلك فأنا سأمضى فى طريقى مبلغا رسالته - سبحانه - ، أما أنتم فسترون سوء عاقبتكم إذا ما سرتم فى طريق الكفر والعناد .
وفى قراءة سبعية بلفظ ( قل ) على الأمر للنبى - صلى الله عليه وسلم - .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - ربى يعلم القول فى السماء والأرض وهو السميع العليم .
عند ذلك وكل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أمرهم وأمره إلى ربه ، وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية ؛ وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره !
( قال : ربي يعلم القول في السماء والأرض ، وهو السميع العليم ) .
فما من نجوى في مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها - وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض . . . وما من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها - وهو السميع العليم .
{ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية ، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين ، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض . وقوله : { وهو السميع العليم } أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم ، وفي هذا تهديد لهم ووعيد .
{ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } جهرا كان أو سرا فضلا عما أسروا به فهو آكد من قوله { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض } ولذلك اختير ها هنا وليطابق قوله و{ أسروا النجوى } في المبالغة . وقرأ حمزة والكسائي وحفص { قال } بالإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم . { وهو السميع العليم } فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون .
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم وللناس جميعاً { قل ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «قل ربي » وقرأ حمزة والكسائي «قال ربي يعلم » على معنى الخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واختلف عن عاصم ، قال الطبري رحمه الله وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الإهماز .
أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فبعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علِم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر ، فالتعريف في { القول } للاستغراق ، وبذلك كان هذا تذييلاً ، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله { وهو السميع العليم } .
وقرأ الجمهور { قل } بصيغة الأمر ، وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص ، وخلف { قال } بصيغة الماضي ، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة ، أي قال الرسول لهم ، حكى الله ما قاله الرسول لهم ، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور { قل ربي يعلم القول } لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله .
وإنما لم يقل يعلم السرّ لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السرّ وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسرّ وغيره بناء على متعارف الناس . وأما قوله في سورة [ الفرقان : 6 ] { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار ، وكان قول الذين كفروا : { إن هذا إلا إفك افتراه } [ الفرقان : 4 ] صادراً منهم تارة جهراً وتارة سراً فأعلمهم الله باطلاعه على سرّهم . ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى .