يحث تعالى ، المكذبين لرسولهم ، على السير في الأرض ، بأبدانهم ، وقلوبهم : وسؤال العالمين . { فَيَنْظُرُوا } نظر فكر واستدلال ، لا نظر غفلة وإهمال .
{ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } من الأمم السالفة ، كعاد ، وثمود وغيرهم ، ممن كانوا أعظم منهم قوة وأكثر أموالاً وأشد آثارًا في الأرض من الأبنية الحصينة ، والغراس الأنيقة ، والزروع الكثيرة { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } حين جاءهم أمر الله ، فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا افتدوا بأموالهم ، ولا تحصنوا بحصونهم .
ثم وبخهم - سبحانه - مرة أخرى لعدم اتعاظهم بمصارع الغابرين فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . }
فلم يسيروا فى أقطار الأرض . فينظروا كيف كانت عاقبة الأمم المكذبة من قبلهم ، كقوم صالح وقوم لوط ، وقوم شعيب وغيرهم .
فالاستفهام للتوبيخ والتأنيب ، والفاء فى قوله : { أَفَلَمْ . . . } للعطف على مقدر .
ثم فصل - سبحانه - حال الذين كانوا من قبل كفار مكة فقال : { كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ } أى : فى العدد { وَأَشَدَّ قُوَّةً } أى فى الأبدان والأجسام { وَآثَاراً فِي الأرض } أى : وكانوا أظهر منهم فى العمران والحضارة والغنى .
{ فَمَآ أغنى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أى أن هؤلاء الغابرين عندما حل بهم عذابنا لم تغن عنهم شيئا كثرتهم أو قوتهم أو أموالهم . . بل أخذناهم أخذ عزيز مقتدر فى زمن يسير .
الدرس الثالث : 82 - 85 لفت أنظار الكفار للإعتبارمن مصارع السابقين
وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع القوي الأخير :
( أفلم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون . فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . فلما رأوا بأسنا قالوا : آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا . سنة الله التي قد خلت في عباده . وخسر هنالك الكافرون ) .
ومصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية ؛ وبعضها ما تزال له آثار تحكي قصته ؛ وبعضها حفظته الروايات على الألسنة ، أو حفظته الأوراق والكتب . والقرآن كثيراً ما يوجه القلوب إليها ، لما فيها من دلالة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية ؛ ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف . والقرآن يخاطب الفطرة بما يعلمه منزل هذا القرآن من حقيقة الفطرة ، ومساربها ومداخلها ، وأبوابها التي تطرق فتفتح ، بعضها بعد نقرة خفيفة وبعضها بعد طرقات كثيرة إن كان قد ران عليها الركام !
وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الأرض ، بعين مفتوحة ، وحس متوفز ، وقلب بصير لينظروا ويتدبروا ما كان في الأرض قبلهم ؛ وما يتعرضون هم لجريانه عليهم :
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? ) . .
وقبل أن يذكر كيف كان هذه العاقبة ، يصف حال الذين من قبلهم ، ويقرن إليها حالهم هم لتتم الموازنة ، وتتم العبرة :
( كانوا أكثر منهم ، وأشد قوة وآثاراً في الأرض ) . .
توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران . ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل العرب ، قص الله على رسوله بعضها ، ولم يقصص عليه بعضها . ومنهم من كان العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره . .
( فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) . .
ولم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا عمارة ، مما كانوا يعتزون به ويغترون . بل كان هذا هو أصل شقائهم ، وسبب هلاكهم :
{ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض } ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما ، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم . { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } " ما " الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى ، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به .
ثم احتج تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله في الكفرة الذين { كانوا أكثر } عدداً { وأشد قوة } أبدان وممالك ، وأعظم آثاراً في المباني والأفعال من قريش والعرب ، فلم يغن عنهم كسبهم ولا حالهم شيئاً حين جاءهم عذاب الله وأخذه و { ما } في قوله : { فما أغنى عنهم } نافية . قال الطبري : وقيل هي تقرير وتوقيف .
تفريع هذا الاستفهام عقب قوله : { وَيُرِيكُم ءاياته } [ غافر : 81 ] ، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهو { فَأَيَّ ءاياتت الله تُنكِرُونَ } [ غافر : 81 ] فيقتضي أن السيْر المستفهم عنه بالإِنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعينْ متصل بقوله : { وَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ } [ غافر : 80 ] ، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله تعالى لما كذبت رُسله وجحدت آياته ونعمه .
وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا : { أوَلَمْ يَسِيروا في الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهِم كَانُوا هم أَشَدَّ منهم قُوَّةً } [ غافر : 21 ] الآية ، فكان ما تقدم انتقالاً عقب آيات الإِنذار والتهديد ، وكان هذا انتقالاً عقب آيات الامتنان والاستدلال ، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد . وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين .
والقول في قوله : { أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ } إلى قوله : { وَءَاثَاراً في الأرْضِ } مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة ، وخولف في عطف جملة { أفَلَمْ يَسِيرُوا } بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة .
وجملة { فَمَا أغنى عَنْهم مَا كَانُوا يَكْسِبونَ } معترضة والفاء للتفريع على قوله : { كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم } وهو كقوله تعالى : { هذا فليذوقوه حميم وغساق } [ ص : 57 ] وقول عنترة :
ولقد نَزَلْتِ فلا تظنّي غيره *** مني بمنزلة المحَبّ المكرَم
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة إن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئاً .