وقوله - سبحانه - : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } . جواب القسم . و " ما " نافية . و " ضل " من الضلال ، والمراد به هنا : عدم الاهتداء إلى الحق ، وإلى الطريق المستقيم .
و " غوى " من الغى ، وهو الجهل الناشىء من اعتقاد فاسد ، وهو ضد الرشد .
و " الهوى " الميل مع شهوات النفس ، دون التقيد بما يقتضيه الحق ، أو العقل السليم .
والمعنى : وحق النجم الذى ترونه بأعينكم - أيها المشركون - عند غربوه وأفوله ، وعند رجمنا به للشياطين . . . إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسلناه إليكم - { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } ما ضل عن طريق الحق فى أقواله وأفعاله ، وما كان رأيه مجانبا للصواب فى أمر من الأمور ، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما ينطق بما نوحيه إليه من قرآن كريم ، ومن قول حيكم ، ومن توجيه سديد .
وقد أقسم - سبحانه - بالنجم عند غروبه ، للإشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإرادة الله - تعالى - وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره فى السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول ، إذا ما أراد الله - تعالى - له ذلك ، ولا يصلح أن يكون إلها ، لأنه خاضع لإرادة خالقه .
ولقد حكى - سبحانه - عن نبيه إبراهيم أنه حين { جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين } قال بعض العلماء : والوجه أن يكون قوله : { إِذَا هوى } بدل اشتمال من النجم ، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ، ومن أعظم أحواله حال هويّه وسقوطه ، ويكون " إذا " اسم زمان مجردا عن معنى الظرفية ، فى محل جر بحرف القسم . .
وقال - سبحانه - : { صَاحِبُكُمْ } للإشارة إلى ملازمته صلى الله عليه وسلم - لهم ، طوال أربعين سنة قبل البعثة ، وأنهم فى تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق ، والأمانة ، والعقل الراجح ، والقول السديد . . . وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له ، ومطلعين على سلوكه بينهم ، فقولهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر أو مجنون . . . هو نوع من كذبهم البين ، وجهلهم المطبق . .
وقوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه بار راشد تابع للحق ، ليس بضال ، وهو : الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم ، والغاوي : هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره ، فنزه الله [ سبحانه وتعالى ]{[27558]} رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل{[27559]} الضلال كالنصارى وطرائق اليهود ، وعن{[27560]} علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه ، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }
والقسم واقع على قوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } والضلال أبداً يكون من غير قصد من الإنسان إليه . والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده ، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين ، و { غوى } : الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج ، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها ، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالاً بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها{[10679]} .
والضلال : عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المقصود ، وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق .
والغواية : فساد الرأي وتعلقه بالباطل .
والصاحب : الملازم للذي يضاف إليه وصف صاحب ، والمراد بالصاحب هنا : الذي له ملابسات وأحوال مع المضاف إليه ، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كقول أبي مَعبد الخزاعي الوارد في أثناء قصة الهجرة لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته وفيها أمُّ معبد وذكرت له معجزة مسحه على ضرع شاتها : « هذا صاحب قريش » ، أي صاحب الحوادث الحادثة بينه وبينهم .
وإيثار التعبير عنه بوصف { صاحبكم } تعريض بأنهم أهل بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة إطلاعهم على أحواله وشؤونه إذ هو بينهم في بلد لا تتعذر فيه إحاطة علم أهله بحال واحد معين مقصود من بينهم .
ووقع في خطبة الحجاج بعد دَير الجماجم قوله للخوارج « ألستم أصحابي بالأهواز حين رُمتم الغدر واستبطنتم الكفر » يريد أنه لا تخفى عنه أحوالهم فلا يحاولون التنصل من ذنوبهم بالمغالطة والتشكيك .
وهذا رد من الله على المشركين وإبطال لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، وقالوا : شاعر ، وقالوا في القرآن : إنْ هذا إلا اختلاق .
فالجنون من الضلال لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب ، والكذبُ والسحر ضلال وغواية ، والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } [ الشعراء : 224 ] أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية .