وجملة : أأنتم تخلقونه . . . هو المفعول الثانى .
والضمير المنصوب فى قوله : { تَخْلُقُونَهُ } يعود إلى الاسم الموصول فى قوله : { مَّا تُمْنُونَ } . أى : أخبرونى - أيها المشركون عما تصبونه وتقذفونه من المنى فى أرحام النساء ؟ أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقا فمضغا . . أم نحن الذين خلقنا ذلك ؟ لا شك أنكم تعرفون بأننا نحن الذين خلقنا كل ذلك ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلماذا عبدتم مع الله - تعالى - آلهة أخرى .
فالاستفهام للتقرير حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأن الله - تعالى - وحده خلق الإنسان فى جميع أطواره .
قال الجمل : و { أَم } فى هذه المواضع الأربعة منقطعة ، لوقوع جملة بعدها ، والمنقطعة تقدر ببل والهمزة الاستفهامية ، فيكون الكلام مشتملا على استفهامين ، الأول : أأنتم تخلقونه ؟ وجوابه : لا . والثانى : مأخوذ من { أَم } أى : بل أنحن الخالقون ؟ وجوابه نعم .
وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين . تعمل وحدها في خلقه وتنميته ، وبناء هيكله ، ونفخ الروح فيه . ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة ، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله . والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها ؛ كما لا يعرفون كيف تقع . بله أن يشاركوا فيها !
وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان . وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها . ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى ، إلى أن تصير خلقا ، قصة أغرب من الخيال . قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلا ، ويشهد وقوعها كل إنسان !
هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر ، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا . كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى ؛ لأنها مكلفة أن تنشيء جانبا خاصا من المخلوق البشري ! فهذه خلايا عظام . وهذه خلايا عضلات . وهذه خلايا جلد . وهذه خلايا أعصاب . . ثم . . هذه خلايا لعمل عين . وهذه خلايا لعمل لسان . وهذه خلايا لعمل إذن . وهذه خلايا لعمل غدد . . وهي أكثر تخصصا من المجموعات السابقة . . وكل منها تعرف مكان عملها ، فلا تخطئ خلايا العين مثلا ، فتطلع في البطن أو في القدم . مع أنها لو أخذت أخذا صناعيا فزرعت في البطن مثلا صنعت هنالك عينا ! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك ! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذنا هناك ! . . إنها كلها تعمل وتنشيء هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق ، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال .
وإنما ابتدىء الاستدلال بتقديم جملة { أأنتم تخلقونه } زيادة في إبطال شبهتهم إذ قاسوا الأحوال المغيبة على المشاهدة في قلوبهم لا نُعاد بعد أن كنا تراباً وعظاماً ، وكان حقهم أن يقيسوا على تخلق الجنين من مبدأ ماء النطفة فيقولوا : لا تتخلق من النطفة الميتة أجسام حية كما قالوا : لا تصير العظام البالية ذواتاً حيّة ، وإلا فإنهم لم يدّعوا قط أنهم خالقون ، فكان قوله : { أأنتم تخلقونه } تمهيداً للاستدلال على أن الله هو خالق الأجنة بقدرته ، وأن تلك القدرة لا تقصر عن الخلق الثاني عند البعث .
وفعل الرؤية في « أرأيتم » من باب ( ظن ) لأنه ليس رؤية عين . وقال الرضيّ : هو في مثله منقول من رأيت ، بمعنى أبصرت أو عرفتَ ، كأنه قيل : أأبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها ، أخبرني عنها ، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء اه ، أي لأن أصل فعل الرؤية من أفعال الجوارح لا من أفعال العقل .
و { ما تمنون } مفعول أول لفعل { أفرأيتم } . وفي تعدية فعل « أرأيتم » إليه إجمال إذ مورد فعل العلم على حال من أحوال ما تمنون ، ففعل « رأيتم » غير وارد على نفس { ما تمنون } . فكانت جملة { أأنتم تخلقونه } بياناً لجملة { أفرأيتم ما تمنون } ، وأعيد حرف الاستفهام ليطابِق البيانُ مبيَّنَه .
وبهذا الاستفهام صار فعل { أرأيتم } معلقاً عن العمل في مفعول ثان لوجود موجب التعليق وهو الاستفهام . قال الرضيّ : إذ صُدر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام فالأوْلى أن لا يعلق فعل القلب عن المفعول الأول نحو : علمْت زيداً أي من هو » . اه .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في { أأنتم تخلقونه } لإِفادة التقويّ لأنهم لما نُزلوا منزلة من يزعم ذلك كما علمتَ صيغت جملة نفيه بصيغة دالة على زعمهم تمكن التصرف في تكوين النسل .
وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله تعالى معنى قصر الخلق على الله تعالى .
و { أم } متصلة معادلة الهمزة ، وما بعدها معطوف لأن الغالب أن لا يذكر له خبر اكتفاء بدلالة خبر المعطوف عليه على الخبر المحذوف ، وههنا أعيد الخبر في قوله : { أم نحن الخالقون } زيادة في تقرير إسناد الخلق إلى الله في المعنى وللإِيفاء بالفاصلة وامتداد نفس الوقف ، ويجوز أن نجعل { أم } منقطعة بمعنى ( بل ) لأن الاستفهام ليس بحقيقي فليس من غرضه طلب تعيين الفاعل ويكون الكلام قد تم عند قوله : { تخلقونه } .