ثم استعمل فى رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
أى: كل ما يصاحبكم من نعمة فهو من الله - تعالى - فكان من الواجب عليكم أن تشكروه على ذلك، ولكنكم لم تفعلوا، فإنكم إذا نزل بكم الضر، صحتم بالدعاء، ورفعتم أصواتكم بالتضرع، ليكشف عنكم ما حل بكم، فإذا ما كشف - سبحانه - عنكم الضر، سرعان ما يقع فريق منكم فى الشرك الذى نهى الله - تعالى - عنه.
و " ثم " فى هاتين الآيتين للتراخى الرتبى، لبيان الفرق الشاسع بين حالتهم الأولى وحالتهم الثانية.
والتعبير بالمس فى قوله { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ.. } للإِيماء بأنهم بمجرد أن ينزل بهم الضر ولو نزولا يسيرا، جأروا إلى الله - تعالى - بالدعاء لكشفه.
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله { فإليه تجأرون } لإِفادة القصر، أى إليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء ليرفع عنكم ما نزل بكم من بلاء، لا إلى غيره؛ لأنكم تعلمون أنه لا كاشف للضر إلا هو - سبحانه -.
و " إذا " الأولى فى قوله { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ.. } شرطية والثانية وهى قوله { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم.. } فجائية، وهى جواب الأولى.
وهذا التعبير يشير إلى مسارعة فريق من الناس، إلى جحود نعم الله - تعالى - بمجرد أن يكشف عنهم الضر بدون تريث أو تمهل.
وقال - سبحانه - { فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } لتسجيل الشرك على هذا الفريق ولإِنصاف غيره من المؤمنين الصادقين، الذين يشكرون الله - تعالى - فى جميع الأحوال، ويواظبون على أداء ما كلفهم به فى السراء والضراء.
وهذا المعنى الذى تضمنته هاتان الآيتان، قد جاء ما يشبهه فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى:
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ?لإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }
{ وَإِذَا مَسَّ ?لإِنسَانَ ?لضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى? ضُرٍّ مَّسَّهُ.. }
فهذه الآيات الكريمة تصور الطبائع البشرية أكمل تصوير وأصدقه، إذ الناس - إلا من عصم الله - يجأرون إلى الله - تعالى - بالدعاء عند الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والرخاء.
وقال هاهنا : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } قيل : " اللام " هاهنا لام العاقبة . وقيل : لام التعليل ، بمعنى : قيضنا لهم ذلك{[16490]} ليكفروا ، أي : يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم ، وأنه المسدي إليهم النعم ، الكاشف عنهم النقم .
و { الضر } وإن كان يعم كل مكروه ، فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن ، و { تجأرون } معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع ، وأصله في جؤار الثور ، والبقرة وصياحها ، وهو عند جهد يلحقها ، أو في أثر دم يكون من بقر تذبح ، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
يراوح من صلوات الملي . . . ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا{[7340]}
بأبيل كلما صلى جأر{[7341]} . . . والأصوات تأتي غالباً على فعال أو فعيل : وقرأ الزهري «يجَرَون » بفتح الجيم دون همز ، حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم ، كما خففت «تسلون » من «تسألون » ، وقوله { ثم إذا كشف الضر } قرأ الجمهور «كشف » ، وقرأ قتادة «كاشف » ، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة ، و { فريق } هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر ، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم ، وأضافوا ذلك الشفاء إليها .