وذكر الله مراجعته إياه ، فقال : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ْ } مهجنا له عبادة الأوثان : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ْ } أي : لم تعبد أصناما ، ناقصة في ذاتها ، وفي أفعالها ، فلا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا ، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع ، ولا تقدر على شيء من الدفع ، فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعا . ودل بتنبيهه وإشارته ، أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال ، الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه ، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو ، وهو الله تعالى .
ثم بين - سبحانه - مظاهر صدقه وإخلاصه لدعوة الحق فقال : { إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } .
والظرف { إِذْ } بدل اشتمال من { إِبْرَاهِيمَ } وجملة { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } معترضة بين البدل والمبدل منه لتعظيم شأنه - عليه السلام - .
والتاء فى قوله { ياأبت } عوض عن ياء المتكلم ، إذ الأصل يا أبى ، وناداه بهذا الوصف دون أن يذكر اسمه : زيادة فى احترامه واستمالة قلبه للحق .
أى : واذكر خبر إبراهيم وقت أن قال لأبيه آزر مستعطفاً إياه : يا أبت لماذا تعبد شيئاً لا يسمع من يناديه . ولا يبصر من يقف أمامه ، ولا يغنى عنك شيئاً من الإغناء ، لأنه لا يملك لنفسه - فضلاً عن غيره - نفعاً ولا ضراً .
إذ قال لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا . . ) .
بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه ، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه ، وعلمه إياه ؛ وهو يتحبب إليه فيخاطبه : ( يا أبت )ويسأله : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ? )والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى . وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى . فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان ، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان ، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا . إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام .
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم{[18855]} : واذكر في الكتاب إبراهيم واتلُه على قومك ، هؤلاء الذين يعبدون الأصنام ، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين{[18856]} هم من ذريته ، ويدعون أنهم على ملته ، وهو{[18857]} كان صديقًا نبيًّا - مع أبيه - كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال ، { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } أي : لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررًا .
وقوله : إذْ قالَ لأبِيهِ يقول : اذكره حين قال لأبيه يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ يقول : ما تصنع بعبادة الوَثَن الذي لا يسمع وَلا يُبْصرُ شيئا وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا يقول : ولا يدفع عنك ضرّ شيء ، إنما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع . يقول ما تصنع بعبادة ما هذه صفته ؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءك ، وإذا أحيط بك أبصرك فنصرك ، وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك .
واختلف أهل العربية في وجه دخول الهاء في قوله يا أبَتِ فكان بعض نحوّيي أهل البصرة يقول : إذا وقفت عليها قلت : يا أبه ، وهي هاء زيدت نحو قولك : يا أمه ، ثم يقال : يا أم إذا وصل ، ولكنه لما كان الأب على حرفين ، كان كأنه قد أُخلّ به ، فصارت الهاء لازمة ، وصارت الياء كأنها بعدها ، فلذلك قالوا : يا أبة أقبل ، وجعل التاء للتأنيث ، ويجوز الترخيم من يا أب أقبل ، لأنه يجوز أن تدعو ما تضيفه إلى نفسك في المعنى مضموما ، نحو قول العرب : يا ربّ اغفر لي ، وتقف في القرآن : يا أبه في الكتاب . وقد يقف بعض العرب على الهاء بالتاء . وقال بعض نحوّيي الكوفة : الهاء مع أبة وأمة هاء وقف ، كثرت في كلامهم حتى صارت كهاء التأنيث ، وأدخلوا عليها الإضافة ، فمن طلب الإضافة ، فهي بالتاء لا غير ، لأنك تطلب بعدها الياء ، ولا تكون الهاء حينئذٍ إلا تاء ، كقولك : يا أبت لا غير ، ومن قال : يا أبه ، فهو الذي يقف بالهاء ، لأنه لا يطلب بعدها ياء ومن قال : يا أبتا ، فإنه يقف عليها بالتاء ، ويجوز بالهاء فأما بالتاء ، فلطلب ألف الندبة ، فصارت الهاء تاء لذلك ، والوقف بالهاء بعيد ، إلا فيمن قال : «يا أميمةَ ناصِبِ » فجعل هذه الفتحة من فتحة الترخيم ، وكأن هذا طرف الاسم ، قال : وهذا يعيد .
وقوله { يا أبت } ، اختلف النحاة في التاء من { أبت } ، فمذهب سيبويه أنها عوض عن ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء ، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء ، لان الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء ، وفي مصحف ابن مسعود «واأبت » بواو للنداء ، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر . «يا أبتَ » بفتح التاء ، ووجهها أنه{[7968]} أراد «يا أبتا » فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها ، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة ، والذي { لا يسمع ولا يبصر } ، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها ، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده .