السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا} (42)

ولما كانت مرتبة النبوّة أرفع من مرتبة الصدّيقية قال تعالى : { نبيا } أي : استنبأه الله تعالى : إذ لا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده .

وقوله تعالى { إذ قال } بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو بصدّيقاً نبياً أي : كان جامعاً لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين قال { لأبيه } آزر هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله : { يا أبت } والتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يجمع بينهما وقرأ ابن عامر بفتح التاء في الوصل والباقون بكسرها وأمّا الوقف فوقف ابن كثير وابن عامر بالهاء والباقون بالتاء ، ثم إنّ الله تعالى حكى عنه أيضاً : أنه تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأوّل قوله : { لم تعبد } مريداً بالاستفهام المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله : { ما لا يسمع ولا يبصر } أي : ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً { ولا يغني عنك شيئاً } في جلب نفع ودفع ضرّ فوصف الأوثان بصفات ثلاث كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه :

أحدها : أنّ العبادة غاية التعظيم فلا تستحق إلا لمن له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما تقرّر في تفسير قوله : { وإنّ الله ربي وربكم } [ مريم ، 36 ] وكما أنه لا يجوز الاشتغال بشكر ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها .

وثانيها : أنها إذا لم تسمع ولا تبصر ولا تميز من يطيعها عمن يعصيها فأيّ فائدة في عبادتها ؟ وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات .

وثالثها : أنّ الدعاء مخ العبادة فإذا لم يسمع الوثن دعاء الداعي فأيّ منفعة في عبادته وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه فأيّ منفعة في ذلك التقرّب .

ورابعها : أنّ السامع المبصر الضارّ النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبودية الأخس .

وخامسها : إن كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى بها منفعة ولا يخاف من ضررها فأيّ فائدة في عبادتها ؟ .

وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد حين جعلها إبراهيم عليه السلام جذاذاً فأي رجاء فيها للغير ؟ فكأنه عليه السلام قال : ليست الإلهية إلا لرب يسمع ويبصر ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه .