اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا} (42)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ } : يجوز أن يكون بدلاً من " إبْراهيمَ " بدل اشتمال ؛ كما تقدَّم في { إِذِ انتبذت } [ الآية : 16 ] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه ؛ بقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } نحو : " رأيتُ زيْداً -ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ " وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن تتعلق " إذْ " ب " كَانَ " أو ب " صدِّيقاً نبيًّا " ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء{[21635]} أن يعمل فيه " صدِّيقاً نبيًّا " أو معناه .

قال أبو حيان : " الإعرابُ الأوَّلُ - يعني البدلية - يقتضي تصرُّف " إذْ " وهي لا تتصرَّفُ ، والثاني فيه إعمالُ " كان " في الظرف ، وفيه خلافٌ ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين ، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل " صدِّيقاً " لأنَّه قد وصف ، إلا عند الكوفيِّين ، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل " نبيَّا " لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة " .

قال شهاب الدين : العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم ، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : " أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه " .

وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ " يَا أبَتَ " وفي مصحف عبد الله{[21636]} " وا أبتِ " ب " وا " التي للندبة .

والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلاَّ يجمع بين العوض ، والمعوَّض منه ، وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء .

قوله تعالى : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه :

أحدها : أن العبادة غايةُ التَّعظيم ، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام ، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم ، وفروعها على [ ما تقدم ]{[21637]} في تفسير قوله تعالى :

{ إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ آل عمران : 51 ] ، وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها ، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة ، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها .

وثانيها : أنَّها إذا لم تسمع ، ولم تُبْصر ، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات .

وثالثها : أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي ، فأيُّ منفعةٍ في عبادته ؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه ، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب ؟ .

ورابعها : أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك ، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات ؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثنِ ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ ؟ .

وخامسها : إذا كانت لا تنفعُ ، ولا تضرُّ ، فلا يرجى منها منفعةٌ ، ولا يخافُ من ضررها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ؟ ! .

وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- جُذاذاً ، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير ؟َ ! ، فكأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- قال : ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر ، ويجيبُ دعوة الدَّاعي ، إذا دعاه .

فإن قيل : إمَّا أن يقال : إنَّ أبا إبراهيم -صلوات الله عليه- كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ ، مختارةٌ ، خالقة .

أو يقال : إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك ؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب ، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم ؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب .

أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر ، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله .

أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب ، قلَّما يتَّفِقُ مثلها ، أو لغير ذلك .

فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل ، كان في نهاية الجُنُونِ ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسماوات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة ، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً ، والمجنونُ لا يناظرُ ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك ؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء ، ولا قادرة ، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك .

فالجوابُ{[21638]} : لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ : أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنَّما أورد إبراهيمُ -صلوات الله وسلامه عليه- هذه [ الدلائل ]{[21639]} عليهم ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً ؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات ، أو على سبيل أن الكواكب تنفع ، وتضُرُّ ، فبيَّن إبراهيم -صلواتُ الله عليه وسلامه- أنه لا منفعة في طاعتها ، ولا مضرَّة في الإعراض عنها ؛ فوجب أن تجتنب عبادتها .


[21635]:ينظر: الإملاء 2/114.
[21636]:ينظر: البحر 6/182، الدر المصون 4/590.
[21637]:في ب:تقرر.
[21638]:ينظر: الفخر الرازي 21/192.
[21639]:في أ: الدلالة.