قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ } : يجوز أن يكون بدلاً من " إبْراهيمَ " بدل اشتمال ؛ كما تقدَّم في { إِذِ انتبذت } [ الآية : 16 ] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه ؛ بقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } نحو : " رأيتُ زيْداً -ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ " وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن تتعلق " إذْ " ب " كَانَ " أو ب " صدِّيقاً نبيًّا " ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء{[21635]} أن يعمل فيه " صدِّيقاً نبيًّا " أو معناه .
قال أبو حيان : " الإعرابُ الأوَّلُ - يعني البدلية - يقتضي تصرُّف " إذْ " وهي لا تتصرَّفُ ، والثاني فيه إعمالُ " كان " في الظرف ، وفيه خلافٌ ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين ، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل " صدِّيقاً " لأنَّه قد وصف ، إلا عند الكوفيِّين ، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل " نبيَّا " لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة " .
قال شهاب الدين : العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم ، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : " أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه " .
وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ " يَا أبَتَ " وفي مصحف عبد الله{[21636]} " وا أبتِ " ب " وا " التي للندبة .
والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلاَّ يجمع بين العوض ، والمعوَّض منه ، وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء .
قوله تعالى : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه :
أحدها : أن العبادة غايةُ التَّعظيم ، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام ، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم ، وفروعها على [ ما تقدم ]{[21637]} في تفسير قوله تعالى :
{ إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ آل عمران : 51 ] ، وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها ، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة ، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها .
وثانيها : أنَّها إذا لم تسمع ، ولم تُبْصر ، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات .
وثالثها : أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي ، فأيُّ منفعةٍ في عبادته ؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه ، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب ؟ .
ورابعها : أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك ، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات ؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثنِ ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ ؟ .
وخامسها : إذا كانت لا تنفعُ ، ولا تضرُّ ، فلا يرجى منها منفعةٌ ، ولا يخافُ من ضررها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ؟ ! .
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- جُذاذاً ، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير ؟َ ! ، فكأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- قال : ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر ، ويجيبُ دعوة الدَّاعي ، إذا دعاه .
فإن قيل : إمَّا أن يقال : إنَّ أبا إبراهيم -صلوات الله عليه- كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ ، مختارةٌ ، خالقة .
أو يقال : إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك ؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب ، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم ؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب .
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر ، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله .
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب ، قلَّما يتَّفِقُ مثلها ، أو لغير ذلك .
فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل ، كان في نهاية الجُنُونِ ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسماوات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة ، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً ، والمجنونُ لا يناظرُ ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك ؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء ، ولا قادرة ، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك .
فالجوابُ{[21638]} : لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ : أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنَّما أورد إبراهيمُ -صلوات الله وسلامه عليه- هذه [ الدلائل ]{[21639]} عليهم ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً ؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات ، أو على سبيل أن الكواكب تنفع ، وتضُرُّ ، فبيَّن إبراهيم -صلواتُ الله عليه وسلامه- أنه لا منفعة في طاعتها ، ولا مضرَّة في الإعراض عنها ؛ فوجب أن تجتنب عبادتها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.