الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا} (42)

و { إِذْ قَالَ } نحو قولك : رأيت زيداً ، ونعم الرجل أخاك . ويجوز أن يتعلق إذ ب ( كان ) أو ب ( صديقاً نبياً ) ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات . والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم ، كقوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فالله عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله . التاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلا يجمع بي العوض والمعوض منه . وقيل : يا أبتا ، لكون الألف بدلاً من الياء ، وشبه ذلك سيبويه بأينق ، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة . انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورّطاً فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز ، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة : كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن ، منتصحاً في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا ، حدّث أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام : إنك خليلي ، حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار ، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أُظله تحت عرشي ، وأُسكنه حظيرة القدس ، وأُدنيه من جَواري » وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه ، لأن المعبود لو كان حياً مميزاً ، سميعاً بصيراً ، مقتدراً على الثواب والعقاب ، نافعاً ضاراً ، إلا أنه بعض الخلق : لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية ، ولسجل عليه بالغيّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين قال الله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون } [ آل عمران : 80 ] وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم ، فلا تحق ، إلا لمن له غاية الإنعام : وهو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، الذي منه أصول النعم وفروعها . فإذا وجهت إلى غيره - وتعالى علواً كبيراً أن تكون هذه الصفة لغيره - لم يكن إلا ظلماً وعتواً وغياً وكفراً وجحوداً ، وخروجاً عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم ، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور ؟ فلا يسمع - يا عابده - ذكرك له وثناءك عليه ، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له . فضلاً أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه ، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها .