{ بَلْ تَأْتِيهِمْ ْ } النار { بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ْ } من الانزعاج والذعر والخوف العظيم .
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ْ } إذ هم أذل وأضعف من ذلك .
{ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ْ } أي : يمهلون ، فيؤخر عنهم العذاب . فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة ، لما استعجلوا بالعذاب ، ولخافوه أشد الخوف ، ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم ، قالوا ما قالوا ، ولما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم : { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ } سلاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ْ }
وقوله - سبحانه - { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } . . . بيان لسرعة قيام الساعة ، ومفاجأتها لهم . أى : بل تأتيهم الساعة الموعود بها ، وبعذابهم فيها ، ومفاجأة من غير شعور بمجيئها " فتبهتهم " أى : فتدهشهم وتحيرهم ، والبهت : الانقطاع والحيرة .
" فلا يستطيعون ردها " أى : فلا يستطيعون دفع الساعة أو ردها عنهم { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أى : ولا هم يمهلون لتوبة أو معذرة .
وقوله : { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً } {[19634]} أي : " تأتيهم النار بغتة " ، أي : فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } أي : تذعرهم{[19635]} فيستسلمون لها حائرين ، لا{[19636]} يدرون ما يصنعون ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أي : ليس لهم حيلة في ذلك ، { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لا تأتي هذه النار التي تلفح وجوه هؤلاء الكفار الذين وصف أمرهم في هذه السورة حين تأتيهم عن علم منهم بوقتها ، ولكنها تأتيهم مفاجأة لا يشعرون بمجيئها فتَبْهَتُهُمْ يقول : فتغشاهم فجأة ، وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل في وجهه بالشيء ، حتى يبقى المبهوت كالحيران منه . فلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّها يقول : فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم . وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول : ولا هم وإن لم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بالعذاب بها لتوبة يحدثونها وإنابة ينيبون ، لأنها ليست حين عمل وساعة توبة وإنابة ، بل هي ساعة مجازاة وإثابة .
{ بل تأتيهم } العدة أو النار أو الساعة . { بغتة } فجأة مصدر أو حال . وقرىء بفتح الغين . { فتبهتهم } فنغلبهم أو تحيرهم . وقرىء الفعلان بالياء والضمير ل { الوعد } أو ال{ حين } وكذا في قوله : { فلا يستطيعون ردها } لأن الوعد بمعنى النار أو العدة والحين بمعنى الساعة ويجوز أن يكون ال{ لنار } أو لل{ بغتة } { ولا هم ينظرون } يمهلون وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا .
( بل ) للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم ، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة ، وهو أشدّ على النفوس لعدم التهيُّؤ له والتوطن عليه ، كما قال كُثَيّر :
فقلت لها يا عز كل مصيبة *** إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] .
وفاعل { تأتيهم } ضمير عائد إلى الوعد . وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى : { حين لا يكفون عن وجوههم النار } باعتبار الوقعة أو نحو ذلك ، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة . وأمّا على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين لأن الحين في معنى الساعة .
والبغتة : المفاجأة ، وهي حدوث شيء غير مترقب .
والبَهت : الغلب المفاجىء المعجز عن المدافعة ، يقال : بَهتَهَ فبُهِتَ . قال تعالى في سورة [ البقرة : 258 ] { فبهت الذي كفر } أي غُلب . وهو معنى التفريع في قوله تعالى : { فلا يستطيعون ردها } وقوله تعالى : { ولا هم ينظرون } أي لا تؤخر عنهم . وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أُنظِروا زمناً طويلاً لعلهم يقلعون عن ضلالهم .
وما أشدّ انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } في [ الأنفال : 42 ] ، وقال تعالى : { ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [ الأنفال : 44 ] . ولا شك في أن المستهزئين مثلَ أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف ، كانوا ممن بَغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك .
وأما إذا أريد بضمير { تأتيهم } الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة بغتة . وأما أولئك المستهزئون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون .