{ إِنَّ هَذَا } الذي ذكره الله تعالى ، من جزاء العباد بأعمالهم ، خيرها وشرها ، وتفاصيل ذلك { لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } أي : الذي لا شك فيه ولا مرية ، بل هو الحق الثابت الذي لا بد من وقوعه ، وقد أشهد الله عباده الأدلة القواطع على ذلك ، حتى صار عند أولي الألباب كأنهم ذائقون له مشاهدون له{[978]} فحمدوا الله تعالى على ما خصهم به من هذه النعمة العظيمة ، والمنحة الجسيمة .
{ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } أى : إن هذا الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة وغيرها ، لهو الحق الثابت الذى لا يحوم حوله شك أو ريب .
فقوله : { حَقُّ اليقين } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أى : لهو اليقين الحق . . .
أو هو من إضافة الشىء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، كما فى قوله - تعالى - : { حَبْلِ الوريد } إذ الحبل هو الوريد ، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ هََذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقرّبين وأصحاب اليمين ، وعن المكذّبين الضآلين ، وما إليه صائرة أمورهم لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ يقول : لهو الحقّ من الخبر اليقين لا شكّ فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد إنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ قال : الخبر اليقين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذْبِينَ الضّآلّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ حتى ختم ، إن الله تعالى ليس تاركا أحدا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن . فأما المؤمن فأيقن في الدنيا ، فنفعه ذلك يوم القيامة . وأما الكافر ، فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه .
واختلف أهل العربية في وجه إضافة الحقّ إلى اليقين ، والحقّ يقين ، فقال بعض نحويي البصرة ، قال : حقّ اليقين ، فأضاف الحقّ إلى اليقين ، كما قال : ذلكَ دِينُ القَيّمَةِ : أي ذلك دين الملّة القيمة ، وذلك حقّ الأمر اليقين . قال : وأما هذا رجل السّوء ، فلا يكون فيه هذا الرجل السّوء ، كما يكون في الحقّ اليقن ، لأن السوء ليس بالرجل ، واليقين هو الحقّ . وقال بعض أهل الكوفة : اليقين نعت للحقّ ، كأنه قال : الحقّ اليقين ، والدين القيم ، فقد جاء مثله في كثير من الكلام والقرآن وَلَدَارُ الاَخِرَةُ والدارُ الاَخِرَةُ قال : فإذا أضيف توهم به غير الأوّل .
ولما كمل تقسيم أحوالهم وانقضى الخبر بذلك ، أكد تعالى الاخبار بأن قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبة تدخل معه أمته فيها ، إن هذا الذي أخبرنا به { لهو حق اليقين } . وإضافة الحق إلى { اليقين } عبارة فيها مبالغة ، لأنهما بمعنى واحد ، فذهب بعض الناس إلى أنه من باب دار الآخرة ومسجد الجامع ، وذهبت فرقة من الحذاق إلى أنه كما تقول في أمر تؤكده : هذا يقين اليقين أو صواب الصواب ، بمعنى أنه نهاية الصواب ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، وذلك لأن دار الآخرة وما أشبهها يحتمل أن تقدر شيئاً أضفت الدار إليه وصفته بالآخرة ثم حذفت واقمت الصفة مقامه ، كأنك قلت : دار الرجعة أو النشأة أو الخلقة ، وهنا لا يتجه هذا ، وإنما هي عبارة مبالغة وتأكيد معناه أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته{[10945]} .
تذييل لجميع ما اشتملت عليه السورة من المعاني المثبتة .
والإِشارة إلى ذلك بتأويل المذكور من تحقيق حق وإبطال باطل .
والحق : الثابت . و { اليقين } : المعلوم جزماً الذي لا يقبل التشكيك .
وإضافة { حق } إلى { اليقين } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي لهو اليقين الحق . وذلك أن الشيء إذا كان كاملاً في نوعه وصُف بأنه حقّ ذلك الجنس ، كما في الحديث : « لأبعثن مَعكم أميناً حقَّ أمين » . فالمعنى : أن الذي قصصنا عليك في هذه السورة هو اليقين حقُّ اليقين ، كما يقال : زيد العالم حقُ عالم . ومآل هذا الوصف إلى توكيد اليقين ، فهو بمنزلة ذكر مرادف الشيء وإضافة المترادفين تفيد معنى التوكيد ، فلذلك فسروه بمعنى : أن هذا يقينُ اليقين وصوابُ الصواب . نريد : أنه نهاية الصواب . قال ابن عطية : وهذا أحسن ما قيل فيه .
ويجوز أن تكون الإِضافة بيانية على معنى ( مِن ) ، وحقيقته على معنى اللام بتقدير : لهو حق الأمر اليقين ، وسيجيء نظير هذا التركيب في سورة الحاقة . وسأبين هنالك ما يزيد على ما ذكرته هنا فانظره هنالك .
وقد اشتمل هذا التذييل على أربعة مؤكدات وهي : ( إن ) ، ولام الابتداء ، وضمير الفصل ، وإضافة شبه المترادفين .