وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا .
وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ لأنها على غير أساس ، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات اللّه ، والتصديق بجزائه هَلْ يُجْزَوْنَ في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر ، لا يرجو فيها ثوابا ، وليس لها غاية تنتهي إليه ، فلذلك اضمحلت وبطلت .
ثم قال - تعالى - { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أى : بطلت وفسدت وصارت هباء منثورا ، بسبب تكذيبهم لآيات الله ، وإنكارهم للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب .
والاستهفام في قوله { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } للنفى : أى : لا يجزون يوم القيامة إلا الجزاء الذي يستحقونه بسبب أعمالهم في الدنيا . فربك - سبحانه - لا يظلم أحدا .
وقوله { والذين كَذَّبُواْ } في خبره وجهانك
أحدهما : أنه الجملة من قوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } وهل يجزون خبر ثان أو مستأنف .
والثانى : أن الخبر { هَلْ يُجْزَوْنَ } والجملة من قوله { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } في محل نصب على الحال وقد مضمرة عند من يشترط ذلك ، وصاحب الحال فاعل كذبوا .
وقوله { وَلِقَآءِ الآخرة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله والفاعل محذوف والتقدير : ولقائهم الآخرة .
والثانى : أنه من باب إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة " .
ثم قصت السورة علينا رذيلة من رذائل بنى إسرائيل المتعددة ، وذلك أنهم بعد أن تركهم موسى - عليه السلام - وذهب لمناجاة ربه مستخلفا عليهم أخاه هارون ، انتهزوا لين جانب هارون معهم ، فعبدوا عجلا جسداً له خوار صنعه لهم السامرى من الحلى التي استعارها نساؤهم من نساء قبط مصر .
وحاول هارون - عليه السلام - أن يصدهم عن ذلك بشتى السبل ، ولكنهم أعرضوا عنه قائلين { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } وأعلم الله - تعالى - موسى بما حدث من قومه في غيبته فعاد إليهم مغضبا حزينا ، فوبخهم على كفرهم وجهالاتهم ، وعاتب بشدة أخاه هارون لتركه إياهم يعبدون العجل ولكن هارون اعتذر له ، وأقنعه بأنه لم يقصر في نصيحتهم ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين .
وعلى مشهد من بنى إسرائيل أحرق موسى العجل ، وقال للسامرى رأس الفتنة ومدبرها { وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } وبذلك أثبت موسى - عليه السلام - لقومه أن المستحق للعبادة إنما هو الله رب العالمين .
( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون )
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم : حبطت الناقة . . إذا رعت نباتاً ساماً ، فانتفخ بطنها ثم نفقت . . وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة . فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوة ! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام !
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة . . ولكن كيف تحبط هذه الأعمال ؟
من ناحية الاعتقاد . . نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة ، أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة . فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل ، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن . .
ومن ناحية النظر . . نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر . . إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور ، أو آياته المصاحبة للرسالات ، أو التي يحملها الرسل ؛ ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر . . إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه . . لا تربطه بهذا الكون رابطة . وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه . وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع ، ولو بدا أنه قائم وناجح . لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود ؛ ولا يتجه الى الغاية الكبيرة التي يتجه اليها الكون كله . شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول ؛ فمآله الى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد !
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني ؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم . . هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله - سبحانه - عن مشيئته في أمرهم ، بصرفهم عن رؤية آياته ، وتدبر سننه . . وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون . .
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود ، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم ؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام ؛ فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة . . والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط !
والأمم التي خلت شاهد واقع . ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم ، لا يأخذون منهم عبرة ، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف ؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف . . والله من ورائهم محيط . .
وقوله : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات ، حبط عمله .
وقوله : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : إنما نجازيهم بحسب{[12136]} أعمالهم التي أسلفوها ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ، وكما تدين تدان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحقّ ، وكلّ مكذّب حجج الله ورسله وآياته ، وجاحد أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته ، ومنكر لقاء الله في آخرته ، ذهبت أعمالهم فبطلت ، وحصلت لهم أوزارها فثبتت ، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله ، فصارت أعمالهم عليهم وبالاً ، يقول الله جلّ ثناؤه : هَلْ يُجْزَوْنَ إلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول : هل ينالون إلا ثواب ما كانوا يعملون ، فصار ثواب أعمالهم الخلود في نار أحاط بهم سرادقها ، إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان دون طاعة الرحمن نعوذ بالله من غضبه . وقد بيّنا معنى الحبوط والجزاء والاَخرة فيما مضى بما أغنى عن إعادته .