ثم أضاف - سبحانه - إلى رذائلهم رذيلة أخرى فقال : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأولئك هُمُ الغافلون } .
والطبع : الختم والوسم بطابع ونحوه على الشيء ، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه . أي : أولئك الذين شرحوا صدورهم بالكفر ، وطابوا به نفسا ، قد طبع الله تعالى على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فصارت ممنوعة من وصول الحق إليها ، وعاجزة عن الانتفاع به ، وأولئك هم الكاملون في الغفلة والبلاهة ، إذ لا غفلة أشد من غفلة المعرض عن عاقبة أمره ، ولا بلاهة أفدح من بلاهة من آثر الفانية على الباقية .
{ أُولََئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس ، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم ، فختم عليها بطابعه ، فلا يؤمنون ولا يهتدون ، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى ، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ . { وأُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ } يقول : وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر ، وعما يراد بهم .
وقوله : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } الآية ، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى ، واختراع الكفر المظلم{[7423]} في قلوبهم ، وتغليب الإعراض على نظرهم ، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل ، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة ، وهل هو حقيقة أو مجاز{[7424]} ؟ و «السمع » ، اسم جنس ، وهو مصدر في الأصل ، فلذلك وحد ، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر ، فوصفهم ب : «الغفلة » .
جملة مبيّنة لجملة { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } [ سورة النحل : 107 ] بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها : من النظر الصادق في دلائل الوحدانية ، ومن الوعي لدعوة الرسول والقرآن المنزّل عليه ، ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان ، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبّسوا به .
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز تبييناً لمعنى الصّلة المتقدمة ، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد .
وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة . وهو مضمون جملة { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] .
والطّبع : مستعار لمنع وصول الإيمان وأدِلّته ، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس . وقد تقدّم مفصّلاً عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } في سورة البقرة ( 7 )
وجملة { وأولئك هم الغافلون } تكملة للبيان ، أي الغافلون الأكملون في الغفلة ، لأن الغافل البالغ الغاية ينافي حالة الاهتداء .
والقصر قصر موصوف على صفة ، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة ، لعدم الاعتداد بالغافلين غيرهم ، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عُدّ كل غافللٍ غيرهم كمن ليس بغافل . ومن هنا جاء معنى الكَمال في الغفلة لا من لام التّعريف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: {أولئك الذين طبع الله}، يعني: ختم الله، {على قلوبهم} بالكفر، {و} على {وسمعهم و} على {وأبصارهم}، فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه، {وأولئك هم الغافلون} عن الآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم، فختم عليها بطابعه، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ.
{وأُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ} يقول: وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر، وعما يراد بهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الطبع هو التغطية؛ تغطي ظلمة الكفر نور القلب والسمع ونور البصر؛ كأن لكل أحد نورين وبَصَرَين: ظاهر وباطن، يُبصِر بها جميعا فإذا ذهب أحدهما، أو عمي، صار لا يبصر كمن يبصر ببصر الظاهر، إنما يبصر بنور بصره وبنور الهواء: فإذا دخل في أحدهما آفة ذهب الانتفاع، وصار لا يبصر شيئا. فعلى ذلك. للقلب بصر خفي، وبصر ظاهر: الذي هو معروف. فإنما يبصر بهما. فإذا غطت ظلمة الكفر بصر القلب صار لا يبصر شيئا. ألا ترى أنه قال: {فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46)، أخبر أن الأبصار الظاهرة لم تعم، ولكن عميت: {القلوب التي في الصدور} هذا يدل على ما ذكرنا، والله أعلم، معنى طبع السمع والبصر.
وقوله تعالى: {وأولئك هم الغافلون}، يحتمل: غافلين عن النظر في آياته وحججه، ويحتمل: غافلين عما يحل بهم بكفرهم وتكذيبهم آيات الله وحججه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وأولئك هُمُ الغافلون}، الكاملون في الغفلة، الذين لا أحد أغفل منهم؛ لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
طبع الله على قلوبهم"، أي: عن فهم المواعظ. "وسمعهم"، عن كلام الله تعالى. "وأبصارهم"، عن النظر في الآيات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان استمرارهم على الكفر أعجب من ارتدادهم، أتبعه سببه فقال تعالى: {أولئك}، أي: البعداء البغضاء، {الذين طبع}، أي: ختم ختماً هو كفيل بالعطب. {الله}، أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه، {على قلوبهم}، ولما كان التفاوت في السمع نادراً، وحده فقال تعالى: {وسمعهم وأبصارهم}، فصاروا -لعدم انتفاعهم بهذه المشاعر- كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، {وأولئك}، أي: الأباعد من كل خير، {هم الغافلون}، أي: الكاملو الغفلة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مبيّنة لجملة {وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها: من النظر الصادق في دلائل الوحدانية، ومن الوعي لدعوة الرسول والقرآن المنزّل عليه، ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبّسوا به...
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز تبييناً لمعنى الصّلة المتقدمة، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد. وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة. وهو مضمون جملة {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}... والطّبع: مستعار لمنع وصول الإيمان وأدِلّته، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس...
والقصر قصر موصوف على صفة، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة، لعدم الاعتداد بالغافلين غيرهم، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عُدّ كل غافل غيرهم كمن ليس بغافل...
فمادام القلب لا يسمع الهداية، ولا يرى دلائل قدرة الله في كونه فلن نجد فيه غير الكفر، فإذا أراد الإيمان قلنا له: لابد أن تخرج الكفر من قلبك أولاً، فلا يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب واحد؛ لذلك عندنا قانون موجود حتى في الماديات يسمونه: (عدم التداخل)، يمكن أن تشاهده حينما تملأ زجاجة فارغة بالماء، فترى أن الماء لا يدخل إلا بقدر ما يخرج من الهواء. فكذلك الحال في الأوعية المعنوية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فإن اختيار الإنسان لأيّ موقف تجاه مسألة معينة يغلق قلبه وسمعه وبصره عن رؤية الجانب الآخر من المسألة، حتى بمستوى الاحتمال الوجداني، فيتعصب الإنسان لموقفه، فلا يسمح لأيّ شيء آخر أن يقترب من قناعاته، وبذلك يكون هو من أغلق قلبه وسمعه وبصره، بالتزامه السبب الذي أدّى إلى ذلك.. أمّا نسبته إلى الله، فلأن الله هو الذي جعل السببيّة بين المقدمات والنتائج، وإن كانت المقدمات بيد الإنسان، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، الذين استغرقتهم أجواء الكفر، فغفلوا عن أجواء الإيمان، وعن النتائج السلبية التي تحكم موقفهم في الحاضر والمستقبل...