قوله تعالى : { ليكفروا بما آتيناهم } هذا لام الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } أي :ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم ، { وليتمتعوا } قرأ حمزة ، والكسائي : ساكنة اللام ، وقرأ الباقون بكسرها نسقاً على قوله : ليكفروا ، { فسوف يعلمون } وقيل : من كسر اللام جعلها لام كي وكذلك في ليكفروا ، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة .
{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } من نعم ، وبما منحناهم من فضل ورحمة .
{ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } بمتع هذه الحياة وزينتها إلى حين { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } عما قريب عاقبة هذا الكفران لنعم الله ، وهذا التمتع بزينة الحياة الدنيا دون أن يعلموا شيئاً ينفعهم فى أخراهم .
قال الآلوسى : قوله : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } : الظاهر أن اللام فى الموضعين لام كى ، أى : يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم ، ويتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام ، فالشرك سبب لهذا الكفران . وأدخلت لام كى على مسببه ، لجعله كالغرض لهم منه ، فهى لام العاقبة فى الحقيقة .
وقيل : اللام فيهما لام الأمر ، والأمر بالكفران والتمتع ، منجاز فى التخلية والخذلان والتهديد ، كما تقول عند الغضب على من يخالفك : " افعل ما شئت " .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما نجى الله هؤلاء المشركين مما كانوا فيه من البحر من الخوف والحذر من الغرق إلى البرّ إذا هم بعد أن صاروا إلى البرّ يشركون بالله الاَلهة والأنداد لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ يقول : ليجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليهم في أنفسهم وأموالهم .
وَلِيَتَمَتّعُوا اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : وَلِيَتَمَتّعُوا بكسر اللام ، بمعنى : وكي يتمتعوا آتيناهم ذلك . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : وَلْيَتَمَتّعُوا بسكون اللام على وجه الوعيد والتوبيخ : أي اكفروا فإنكم سوف تعلمون ماذا يَلْقون من عذاب الله بكفرهم به .
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه بسكون اللام على وجه التهديد والوعيد ، وذلك أن الذين قرءوه بكسر اللام زعموا أنهم إنما اختاروا كسرها عطفا بها على اللام التي في قوله : لِيَكْفُرُوا ، وأن قوله لِيَكْفُرُوا لما كان معناه : كي يكفروا كان الصواب في قوله وَلِيَتَمَتّعُوا أن يكون : وكي يتمتعوا ، إذ كان عطفا على قوله : ليكفروا عندهم ، وليس الذي ذهبوا من ذلك بمذهب ، وذلك لأن لام قوله لِيَكْفُرُوا صلُحت أن تكون بمعنى كي ، لأنها شرط لقوله : إذا هم يشركون بالله كي يكفروا بما آتيناهم من النعم ، وليس ذلك كذلك في قوله وَلِيَتَمَتّعُوا لأن إشراكهم بالله كان كفرا بنعمته ، وليس إشراكهم به تمتعا بالدنيا ، وإن كان الإشراك به يسهل لهم سبيل التمتع بها فإذ كان ذلك كذلك فتوجيهه إلى معنى الوعيد أولى وأحقّ من توجيهه إلى معنى : وكي يتمتعوا . وبعد فقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ : «وتَمَتّعُوا » وذلك دليل على صحة من قرأه بسكون اللام بمعنى الوعيد .
وقوله { ليكفروا } نصب بلام كي ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «ولِيتمتعوا » بكسر اللام ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «ولْيتمتعوا » بسكون اللام على صيغة الأمر التي هي للوعيد والتهديد ، والواو على هذا عاطفة جملة كلام ، لا عاطفة فعل على فعل وفي مصحف أبي بن كعب «فتمتعوا فسوف تعلمون » ، وفي قراءة ابن مسعود «لسوف تعلمون » باللام .
واللام في { لِيَكْفُرُوا } لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل { يشْرِكُون } . والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله { بما آتَيْنَاهُم } فإِن الإِيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على { يشْرِكُون } فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة ، فاللام استعارة تبعية ، شبه المسبَّب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضاً عن فاء التفريع .
وأما اللام في قوله { ولِيَتَمَتَّعُوا } بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب . وقرأه قالون عن نافع وابنُ كثير ، وحمزة والمكسائي وخلف بسكونها فهي لام امر ، وهي بعد حرف العطف تسكَّن وتكْسر ، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله { اعْمَلُوا ما شِئْتُم } [ فصلت : 40 ] وهو عطف جملة التهديد على جملة { فَلَمَّا نَجاهُمْ إِلى البَرِّ } الخ . . . نظير قوله في سورة [ الروم : 34 ] { لِيكفُروا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
والتمتع : الانتفاع القصير زمنُه . وجملة { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } تفريع على التهديد بالوعيد .