{ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } إلا ليتذكر به من يخشى الله تعالى ، فيتذكر ما فيه من الترغيب إلى أجل المطالب ، فيعمل بذلك ، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران ، فيرهب منه ، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة ، التي كان مستقرا في عقله حسنها مجملا ، فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله ، ولهذا سماه الله { تَذْكِرَةً } والتذكرة لشيء كان موجودا ، إلا أن صاحبه غافل عنه ، أو غير مستحضر لتفصيله ، وخص بالتذكرة { مَن يَخْشَى } لأن غيره لا ينتفع به ، وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار ، ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة ؟ هذا ما لا يكون ، { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم ، وأنه تنزيل خالق الأرض والسماوات ، المدبر لجميع المخلوقات ، أي : فاقبلوا تنزيله بغاية الإذعان والمحبة والتسليم ، وعظموه نهاية التعظيم .
وقوله - سبحانه - : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى } .
استئناف مسوق لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المشركين ، والشقاء يأتى فى اللغة بمعنى التعب والعناء ، ومنه المثل القائل " أشقى من رائض مهر " أى : أتعب . ومنه قول ابى الطيب المتنبى :
ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله . . . وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم
أى : ما أنزلنا عليك القرآن - أيها الرسول الكريم - لكى تتعب وتجهد نفسك هما وغما بسبب إعراض المشركين عن دعوتك ، كما قال - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } وإنما أنزلناه إليك لتسعد بنزوله ، ولتبلغ آياته ، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب .
ومنهم من يرى أن المقصود بالآية النهى عن المغالاة فى العبادة ، فقد أثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قام الليل حتى تورمت قدماه فيكون المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لكى تهلك نفسك بالعبادة ، وتذيقها ألوان المشقة والتعب ، فإن الله - تعالى - يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وما جعل عليكم فى الدين من حرج .
ومنهم من يرى أن الآية مسوقة للرد على المشركين ، الذين قالوا : ما أنزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا ليشقى ، فيكون المراد بالشقاء ما هو ضد السعادة .
قال القرطبى ما ملخصه : " وأصل الشقاء فى اللغة العناء والتعب ، أى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب ، بسبب فرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم . . . أى : ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر .
وروى أن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا للنبى - صلى الله عليه وسلم - إنك لتشقى لأنك تركت دين آبائك ، فأريد الرد على ذلك بأن دين الإسلام ، وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز ، والسبب فى درك كل سعادة ، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها .
وروى أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى بالليل حتى اسمندّت قدماه - أى : تورمت - فقال له جبريل : أبق على نفسك فإن لها عليك حقا ، أى : ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك فى العبادة ، وتذيقها المشقة الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة . .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة وإن كانت تتسع لهذه المعانى الثلاثة ، إلا أن المعنى الأول أظهرها ، وأقربها إلى سياق الآيات الكريمة ، فإن قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى } بيان للحكمة التى من أجلها أنزل الله - تعالى - هذا القرآن .
أى : ما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن لتتعب من فرط تأسفك على كفر الكافرين ، وإنما أنزلناه من أجل أن يكون { تَذْكِرَةً } أى موعظة تلين لها قلوب من يخشى عقابنا ، ويخاف عذابنا ، ويرجو ثوابنا .
وما دام الأمر كذلك فامض فى طريقك ، وبلغ رسالة ربك ، ثم بعد ذلك لا تتعب نفسك بسبب كفر الكافرين ، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء .
وخص - سبحانه - التذكرة بمن يخشى دون غيره ، لأن الخائف من عذاب الله - تعالى - هو وحده الذى ينتفع بهدايات القرآن الكريم وآدابه وتوجيهاته وأحكامه ووعده ووعيده . . كما قال - تعالى - : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } وكما قال - سبحانه - : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } أى : الساعة .
وما كان هذا القرآن إلا للتذكير والإنذار :
والذي يخشى يتذكر حين يذكر ، ويتقي ربه فيستغفر . وعند هذا تنتهي وظيفة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ]
- فلا يكلف فتح مغاليق القلوب ، والسيطرة على الأفئدة والنفوس . إنما ذلك إلى الله الذي أنزل هذا القرآن . وهو المهيمن على الكون كله ، المحيط بخفايا القلوب والأسرار :
وقوله : " إلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى " يقول تعالى ذكره : ما أنزلنا عليك هذا القرآن إلاّ تذكرة لمن يخشى عقاب الله ، فيتقيه بأداء فرائض ربه واجتناب محارمه ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى " وإن الله أنزل كتبه ، وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد ، ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله ، وهو ذكر له أنزل الله فيه حلاله وحرامه ، فقال : " تَنْزِيلاً مِمّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسّمَوَاتِ العُلَى " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " إلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى " قال : الذي أنزلناه عليك تذكرة لمن يخشى .
فمعنى الكلام إذن : يا رجل ما أنزلنا عليك هذا القرآن لتشقى به ، ما أنزلناه إلاّ تذكرة لمن يخشى .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب تذكرة ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : قال : إلاّ تذكرة بدلاً من قوله لتشقى ، فجعله : ما أنزلنا عليك القرآن إلاّ تذكرة . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : نصبت على قوله : ما أنزلناه إلاّ تذكرة . وكان بعضهم ينكر قول القائل : نصبت بدلاً من قوله لِتَشْقَى ، ويقول : ذلك غير جائز ، لأن لِتَشْقَى في الجحد ، و إلاّ تَذْكِرَةً في التحقيق ، ولكنه تكرير . وكان بعضهم يقول : معنى الكلام : ما أنزلنا عليك القرآن إلاّ تذكرة لمن يخشى ، لا لتشقى .