الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ} (3)

قوله : { إِلاَّ تَذْكِرَةً } : في نصبه أوجهٌ ، أحدها : أن تكونَ مفعولاً من أجله . والعاملُ فيه فِعْلُ الإِنزال ، وكذلك " تَشْقَى " علةٌ له أيضاً ، ووجبَ مجيءُ الأولِ مع اللام لأنه ليس لفاعلِ الفعلِ المُعَلَّل ، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ على المفعولية ، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط . هذا كلام الزمخشري ، ثم قال : " فإن قلتَ : " هل يجوزُ أن تقولَ : ما أَنْزَلْنا ، أن تَشقى كقوله { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [ الحجرات : 2 ] ؟ قلت : بلى ولكنها نصبةٌ طارئة كالنصبةِ في { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] وأما النصبةُ في " تَذْكِرةً " فهي كالتي في " ضَرَبْت زيداً " لأنه أحدُ المفاعيلِ الخمسةِ التي هي أصولٌ وقوانينُ لغيرِها " .

قلت : قد منع أبو البقاء أن تكونَ " تَذْكرةً " مفعولاً له لأَنْزَلْنا المذكورةِ ، لأنها قد تعدَّتْ إلى مفعولٍ له وهو " لِتَشْقَى " فلا تتعدَّى إلى آخرَ مِنْ جنسِه . وهذا المنعُ ليس بشيءٍ ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الفعلُ بعلتين فأكثرَ ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يُفضِي العاملُ من هذه الفَضَلاتِ إلاَّ شيئاً واحداً ، إلاَّ بالبدلية أو العطف .

الثاني : أن تكونَ " تذكرة " بدلاً مِنْ محلِّ " لتَشْقَى " وهو رأيُ الزجاج ، وتبعه ابنُ عطية ، واستبعده أبو جعفر ، ورَدَّه الفارسيُّ بأنَّ التذكرةَ ليسَتْ بشقاءٍ . وهو ردٌّ واضحٌ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا فقال : " فإنْ قلتَ : هل يجوزُ أن تكونَ " تذكرةً " بدلاً مِنْ محلِّ " لِتشْقى " ؟ قلت : لا ؛ لاختلافِ الجنسينِ ولكنها نُصِبَتْ على الاستثناءِ المنقطع الذي " إلاَّ " فيه بمعنى " لكن " .

قال الشيخُ : " يعني باختلافِ الجنسَيْنِ أن نَصْبَةَ " تذكرةً " نصبةٌ صحيحةٌ ليست بعارضةٍ ، والنصبةُ التي تكون في " لِتشقى " بعد نَزْعِ الخافضِ نصبةُ عارضةٌ . والذي نقول : إنه ليس له محلٌّ البتَةَ فيتوهمُ البدلُ منه " . قلت : ليس مُرادُ الزمخشري باختلافِ الجنسين إلاَّ ما ذكرتُه عن الفارسيِّ ردَّاً على الزجاج ، وأيُّ أثرٍ لاختلاف النصبين في ذلك ؟

الثالث : أن يكونَ منصوباً على الاستثناء المنقطع أي : لكنْ أَنْزَلْناه تذكرةً . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ ، أي : لكنْ ذَكَّرْنا ، أو تذكَّرْ به أنت تَذْكِرة . الخامس : أنه مصدرٌ في موضع الحال أي : إلاَّ مُذَكِّراً . السادس : أنه بدلٌ من " القرآن " ، ويكون القرآنُ هو التذكرةَ ، قاله الحوفي . السابع : أنه مفعولٌ له أيضاً ، ولكن العاملَ فيه " لِتَشْقَى " ويكون المعنى كما قال الزمخشريُّ : " إنا أَنْزَلْنا عليك القرآنَ لتحتمل متاعبَ التبليغِ ومقاولةَ العُتاةِ من أعداءِ الإِسلام ومقاتلتَهم ، وغيرَ ذلك من أنواعِ المشاقِّ وتكاليفِ النبوة ، وما أنزلنا عليك هذا المَتْعَبَ الشاقَّ إلاَّ ليكونَ تذكرةً .

وعلى هذا الوجهِ يجوزُ أن يكونَ " تذكرةً " حالاً ومفعولاً له " انتهى .

فإنْ قلتَ : مِنْ أين أَخَذْتَ أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أنَّ العاملَ فيه " لِتَشْقَى " ؟ وما المانعُ أن يريدَ بالعاملِ فيه فعلَ الإِنزال ؟ فالجوابُ أنَّ هذا الوجهَ قد تقدَّم له في قولِه : " وكلُّ واحدٍ مِنْ " لتَشْقَى " و " تذكرةً " علةٌ للفعل " . وأيضاً فإنَّ تفسيرَه للمعنى المذكور منصبٌّ على تسلُّطِ " لِتَشْقَى " على " تذكرةً " . إلاَّ أنَّ أبا البقاء لمَّا لم يظهرْ له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري مَنَعَ مِنْ عملِ " لِتَشْقَى " في " تذكرةً " فقال : " ولا يَصِحُّ أن يعملَ فيها " لِتَشْقى " لفساد المعنى " وجوابُه ما تقدَّم . ولا غَرْوَ في تسميةِ التعبِ شقاءً . قال الزمخشري : " والشقاءُ يجيء في معنى التعب . ومنه المثل : " أتعبُ مِنْ رائضِ مُهْر " و " أشقى مِنْ رائض مُهْر " .

و { لِّمَن يَخْشَى } متصلٌ ب " تذكرةً " . وزيدت اللام في المفعولِ تقويةً للعاملِ لكونِه فَرْعاً ، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " تذكرةً " .