اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ} (3)

قوله : { إِلاَّ تَذْكِرَةً } في نصبه أوجه :

أحدها : أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه فعل الإنزال ، وكذلك " لِتَشْقَى " علة له أيضاً ، ووجب مجيء الأول مع اللام ، لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاته شريطة الانتصاب على المفعولية{[22988]} .

والثاني : جاز قطع اللام عنه ونصبه ، لاستجماعه الشرائط{[22989]} هذا كلام الزمخشري{[22990]} ، ثم قال{[22991]} : فإن قلت{[22992]} : هل يجوز أن تقول : " مَا أنْزَلْنَا أنْ تَشْقَى " ، كقوله : { أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم }{[22993]} قلت{[22994]} : بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة{[22995]} في " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه " {[22996]} ، وأما النصبةُ{[22997]} في " تَذْكِرَةً " فهي كالتي في ضربت زيداً{[22998]} ، لأنه{[22999]} أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها{[23000]} .

قال شهاب الدين : قد منع أبو البقاء أن يكون " تَذْكِرَةً " ، مفعولاً له ل " أنْزَلْنَا " المذكورة لأنها قد تعدت إلى مفعول له وهو{[23001]} " لِتَشْقَى " فلا تتعدى إلى آخر من جنسه{[23002]} .

وهذا المنع ليس بشيء ، لأنه يجوز أن يعلل الفعل بعلتين فأكثر ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يقتضي{[23003]} العامل من هذه الفضلات إلا شيئاً{[23004]} واحداً إلا بالبدلية أو{[23005]} العطف{[23006]} .

الثاني : أن تكون " تَذْكِرَةٌ " بدلاً من محل " لِتَشْقَى " وهو رأي الزجاج{[23007]} ، وتبعه ابن عطية{[23008]} ، واستبعده أبو جعفر{[23009]} ، ورده الفارسي{[23010]} ، بأن التذكرة ليست بشقاء وهو رد{[23011]} واضح . وقد أوضح الزمخشري هذا فقال : فإن قلت{[23012]} هل يجوز أن تكون " تَذْكِرَةً " بدلاً من محل " لِتَشْقَى " {[23013]} ؟ قلت{[23014]} : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب{[23015]} على الاستثناء المنقطع الذي ( إلاَّ ) إلا بمعنى ( لكن ){[23016]} .

قال أبو حيان : يعني باختلاف الجنسين أن نصبه " تَذْكِرَةُ " نصبة صحيحة ليست بعارضة{[23017]} ، والنصبة التي تكون في " لِتَشْقَى " {[23018]} بعد نزع الخافض نصبة عارضة ، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه{[23019]} .

قال شهاب الدين : ليس مراد الزمخشري باختلاف الجنسين إلا ما نقل عن الفارسي رداً على الزجاج ، وأي أثر لاختلاف النصبتين في ذلك{[23020]} .

الثالث : أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع أي : لَكِنْ أَنْزَلْنَا تَذْكِرَةً{[23021]} .

الرابع : أنه مصدر مؤكد لفاعل مقدر ، أي : لكن ذكرنا ، أو تذكرتَه أنت تذكرةً{[23022]} .

وقيل التقدير : مَا أنْزَلْنَا عَلَيكَ القرآن لتحملَ متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة ، كما يقال : ( مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الكلامَ لِتَتَأَذَّى إِلاَّ ليَعْتَبِر بكَ غَيْركَ ){[23023]} {[23024]} .

الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي إلا مُذَكِّراً{[23025]} .

السادس : أنه بدل من القرآن ، ويكون القرآن هو التذكرة . قاله الحوفي{[23026]} .

السابع : أنه مفعول له أيضاً ، ولكن العامل فيه " لِتَشْقَى " ، ويكون المعنى{[23027]} كما قال{[23028]} الزمخشري : إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآنَ لِتتحمَّلَ متاعب التبليغ ، ومقاومة{[23029]} العتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم ، وغير ذلك من أنواع المشاق ، وتكاليف النبوة وما أنزلنا هذا الْمُتْعِب{[23030]} الشاق إلاَّ ليكون تَذْكِرَةً . وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون تَذْكِرَةً حالاً ومفعولاً له{[23031]} . انتهى .

فإن قيل : من أين أخذت{[23032]} أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أن العامل فيه " لِتَشْقَى " ، وما{[23033]} المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال ؟

فالجواب{[23034]} : أن هذا الوجه قد تقدَّم له{[23035]} في قوله : وكل واحد من " لِتَشْقَى " ، و " تَذْكِرَةً " علة للفعل ، وأيضاً فإن تفسيره للمعنى المذكور منصَبٌّ{[23036]} على تسلط " لِتَشْقَى " على " تَذْكِرَةً " إلا أنَّ أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل " لِتَشْقَى " في " تَذْكِرَةً " ، فقال : ولا يصح أن يعمل فيها " لِتَشْقَى " لفساد المعنى{[23037]} وجوابه : ما تقدَّم{[23038]} .

( ولا غرو في تسمية التعب شقاءً ){[23039]} ، قال الزمخشري{[23040]} : والشقاء يجيء في معنى التعب ، ومنه المثل : أتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ ، وأشْقَى من رائضِ مُهْرٍ{[23041]} .

و " لِمَنْ يَخْشَى " متصل ب " تَذْكِرَةًُ " وزيدت اللام في المفعول ، تقوية للعامل لكونه فرعا{[23042]} . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل " تَذْكِرة " .

وخصَّ مَنْ يَخْشَى بالتذكر ، لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : { هُدًى لِلْمُتَّقين }{[23043]} .


[22988]:لأن من شروط المفعول من أجله: اتحاده بالمعلل به فاعلا وذلك بأن يكون فاعل الفعل وفاعل المصدر واحدا. وهنا فاعل "أنزلنا" هو الله تعالى، وفاعل لتشقى هو الرسول، فقد شرك انتصابه على المفعول لأجله وهو اتحاده بالمعلل به فاعلا، فوجب جره باللام. انظر شرح التصريح 1/335.
[22989]:شروط المفعول من أجله خمسة أمور: الأول: كونه مصدرا. الثاني: كونه قلبيا. الثالث: كونه علة. الرابع: اتحاده بالمعلل به وقتا. الخامس: اتحاده بالمعلل به فاعلا. فهذه الشروط متحققة في "تذكرة" فنصب على المفعول من أجله. انظر شرح التصريح 1/334 – 335.
[22990]:الكشاف 2/426.
[22991]:أي الزمخشري.
[22992]:في ب: فإن قيل.
[22993]:من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2].
[22994]:في ب: قيل.
[22995]:في ب: ولكن نصبه طارئ كالنصب.
[22996]:من قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} [الأعراف: 155]. والاستشهاد بالآيتين على أن النصب في قوله: {أن تحبط} وقوله: {قومه} نصب طارئ، وذلك لأن قوله: {أن تحبط} في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر والتقدير: لأن تحبط. وقوله: اختار يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف الجر وقد حذف ههنا والتقدير: من قومه. انظر البيان 1/375- 376، 2/382، التبيان 1/597، 2/1170.
[22997]:في ب: النصب.
[22998]:أي نصب أصلي.
[22999]:في ب: لأن.
[23000]:الكشاف 2/426. والمفاعيل الخمسة هي: المفعول به، المفعول المطلق، المفعول له، المفعول فيه، المفعول معه. فالمفعول له أحد هذه المفاعيل فالنصب فيه أصلي.
[23001]:وهو: سقط من ب.
[23002]:التبيان 2/884.
[23003]:في ب: لا يقضى.
[23004]:في ب: للأشياء. وهو تحريف.
[23005]:في ب: و.
[23006]:الدر المصون 5/19.
[23007]:لم أعثر على هذا الوجه في معاني القرآن وإعرابه للزجاج، وفي إعراب القرآن للنحاس (قال أبو إسحاق: هو بدل من "تشقى" أي: ما أنزلناه إلا تذكرة) 3/32.
[23008]:قال ابن عطية : وقوله تعالى: {إلا تذكرة لمن يخشى} يصح أن ينصب على البدل من موضع "لتشقى" تفسير ابن عطية 10/4.
[23009]:هو النحاس . فإنه قال ردا على ما قال الزجاج (وهذا وجه بعيد، والقريب أنه منصوب على المصدر أو مفعول من أجله) إعراب القرآن: 3/32.
[23010]:البحر المحيط 6/225.
[23011]:رد: سقط من ب.
[23012]:في ب: فإن قيل.
[23013]:في ب: "تشقى".
[23014]:في ب: قلنا.
[23015]:في ب: نصبت.
[23016]:الكشاف 2/427. وبهذا رد الزمخشري تخريج الزجاج وابن عطية في أنه يجوز أن تكون "تذكرة" بدلا من محل "لتشقى"، وجعل "تذكرة" منصوبة على الاستثناء المنقطع.
[23017]:في ب: معارضة. وهو تحريف.
[23018]:في ب: تشقى.
[23019]:البحر المحيط 6/225. منهم أبو حيان مراد الزمخشري من قوله: لاختلاف الجنسين. أنه اختلاف النصبتين، وقد رد شهاب الدين هذا وقال: مراد الزمخشري باختلاف الجنسين أن التذكرة ليست بشقاء. كما يتضح من النص الآتي لشهاب الدين. وأرى أن القول ما قال شهاب الدين.
[23020]:الدر المصون 5/19.
[23021]:انظر الكشاف 2/427، البيان 2/135، التبيان 2/884.
[23022]:أي أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله. التبيان 2/884.
[23023]:الفخر الرازي 22/4.
[23024]:ما بين القوسين في ب: ما شاهداك الكلام للتتأذى إلا ليعتبر.
[23025]:انظر التبيان 2/884.
[23026]:انظر البحر المحيط 6/225.
[23027]:في ب: العامل. وهو تحريف.
[23028]:في ب: قاله. وهو تحريف.
[23029]:في الأصل: مقاولة.
[23030]:في ب: التعب.
[23031]:الكشاف : 2/427.
[23032]:في ب: يحدث. وهو تحريف.
[23033]:في ب: وأما. وهو تحريف.
[23034]:في ب: الجواب.
[23035]:كرر في ب بعد (قد تقدم له) قوله: إذا جعله حالا ومفعولا له أن العامل فيه لتشقى، وأما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال.
[23036]:في ب: ومنتصب.
[23037]:التبيان 2/884. وكرر في ب بعد (لفساد المعنى) قوله: الذي ظهر للزمخشري منع من عمل "لتشقى" في "تذكرة".
[23038]:في ب: وجوابه ما تقدم قال الزمخشري : منع من عمل لتشقى في تذكرة وجوابه ما تقدم. وانظر كلام الزمخشري في الوجه الأول، وهذا الوجه أيضا.
[23039]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23040]:الكشاف 2/426.
[23041]:هذا كقولهم: "لا يعدم شقي مهرا) يعني أن معالجة المهارة شقاوة لما فيها من تعب انظر مجمع الأمثال للميداني 1/260.
[23042]:1 وهذه اللام تسمى لام التقوية، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إما بتأخير نحو: {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} [الأعراف: 154] ونحو: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} [يوسف: 43]، أو بكونه فرعا في العمل، كما في الآية {إلا تذكرة لمن يخشى} وذلك لأنّ "تذكرة" مصدر والمصدر فرع في العمل. ونحو {مصدقا لما معهم} [البقرة: 91] ونحو {فعّال لما يريد} [هود: 107] [البروج: 16] ونحو: ضربي لزيد حسن. وقد اجتمع التأخير والفرعية في قوله: {وكنا لحكمهم شاهدين} [الأنبياء: 78]، المغني 1/217.
[23043]:من قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 2].